رسائل في بريد آخر السنة..  السوريون: «كانت سنة كبيسة علينا».. تُرى ما هو القادم؟

رسائل في بريد آخر السنة.. السوريون: «كانت سنة كبيسة علينا».. تُرى ما هو القادم؟

الشرفات مظلمة في مساء الشوارع السورية، ووحدها إشارات المرور ملونة وسط الظلام، وعندما يتذكر المواطن أن سنة ستضع حملها بعد أيام قليلة.. ثمة غصات تمنع رقصاً بشرياً كان يعد العدة لمثل هذه الأيام.

في لقاءات سريعة اعتدناها قبل أن تنهي السنة أيامها على مواطني الأزمة الوطنية، وملحقاتها المعيشية، حاولنا أن نقرأ بريدهم على عجل.. ولو قليلاً مما يختبئ في صدور أناس أنهكتهم أيام لم يعتادوها، وواقع اقتصادي منهك.

لا يتمالك أحمد (س) نفسه لمنعها من الضحك: كانت سنة مشؤومة، وأياماً سوداء بامتياز، وأشعر أنني لست على قيد الحياة خلالها.

(ليال) الموظفة سابقاً في شركة خاصة (بطرف شفتها السفلى): كانت سنة عادية جداً، ولم أشعر بتبدل أحوالي سوى في أمر وحيد.. لقد فقدت عملي.

تراتيل العاطلين

لم تتغير أحوال العاطلين عن العمل، وقد كانت جموعهم تصطف في أماكنهم المعهودة ينتظرون من يحملهم في سيارته إلى مزرعته أو حديقته، ولكن ما تغير فقط أنهم ينتظرون طويلاً، وأن ما كان يدفع لهم لقاء زراعة وحراثة وعتالة ما عاد يكفي في ظل استعار الغلاء.

أبو أيمن (عامل) ينتظر زبونه في باب الجابية كالعادة: كان (المعلم) الزبائن ينتقوننا بعناء، بل إنه صار لنا زبائن دائمون، ونعرف ما يحتاجونه، والأوقات التي يمرون بها، وكنا جميعاً نوزع العمل بيننا، فأوضاعنا متشابهة، ولكن ما مر هذا العام من مشاكل أمنية، ومن أوضاع اقتصادية سيئة غيّر من تعامل هؤلاء ومن مواعيدهم، وصرنا نقتتل على الذهاب إلى العمل.

يقاطعه أبو فيصل:  يا رجل الرزق من عند الله وهو من يفرجها، والله لم تمر عليّ أيام كالتي نعيشها اليوم، وبالكاد نتمكن من إعالة أطفالنا، وإطعامهم.

هنا.. في باب الجابية الفؤوس والمعاول، وآلات تمشيط الحدائق نظيفة فمنذ أيام طويلة لم تنجز عملاً، ولبؤس ينتقل بين المنتظرين في هذا المكان ومن مثلهم تحت جسر كورنيش الميدان.

ورشة.. كانت هنا

يعمل (أحمد. د) من سكان كفرسوسة في الخياطة، وهي مهنته بعد وظيفته الصباحية، ويقوم ببيع بعض منتجات ورشته في بيته للجيران والأقارب، وتساعده في ترويجها زوجته، وكل من في الحي من الطبقة نفسها، وفي الأعياد وجد الجيران ضالتهم عنده في قطعة جديدة ورخيصة، ويمكن أن يكّسي الأب الولد بـ 750 ليرة.. ولكنه يروي حكاية الأشهر الأخيرة من السنة الحالية كيف حولته إلى مجرد صاحب بسطة في البرامكة يبحث عن قطعة يبيعها من أجل 200 ليرة في اليوم.

أحمد: ليس هناك مهنة رابحة، وورش الخياطة بدأت تستقيل منذ أن هاجمنا الخيط التركي، والبضائع الصينية، وهذا ما جعل بضائعنا خارج المنافسة، ومئات الورش أغلقت، والعاملون تحولوا إلى عاطلين عن العمل ينتظرون مواسم الأعياد حيث من الممكن أن يعملوا لأيام قليلة.

يتابع أحمد في هموم مهنته: ما زاد الطين بلة هو غلاء الخيط، وحالياً عدم توفره في أسواقنا، وخيوطنا أغلى من السعر العالمي، وهذا يعني أن تكلفة القطعة غالية، والسوق في حالة ركود، وتحول أصحاب المعامل إلى مستوردين، والآن حتى هم لا يعملون.

الموظفون.. البحث يتواصل

هم الشريحة المحسودة على ما يقبضون من آلاف ثابتة الموعد، وبالكاد تمر الأيام الأولى من الشهر ولا يدخل الدَين في حياة الموظف.

أما هم فلهم هموم على حجم ما يقبضون، وعدا عن ذلك ما يورطهم  به هذا الراتب من تبعات، والقروض الكبيرة التي لا تتجاوز 200 ألف ليرة وتأخذ من جيبه ربع الراتب، وما يجعل الزوجات يطمعن في غسالة أوتوماتيك أو براد لا ينتمي إلى فصيلة (بردى)، وخلاطات وسواها من الكهربائيات التي تسهل عملها، وتجعل من مطبخها فخراً، ومن راتب الزوج قرضاً طويل الأمد.

(فراس.ع) موظف في وزارة الإدارة المحلية، وبعد نضال طويل من الوساطات، والمكائد، وتضليل البعض استطاع أن يتعين بصفة متعاقد سنوي، وهذه ميزة لا تقدر بثمن، فهو على الأقل أفضل وضعاً من عمال العقود الموسمية الذين يعملون في الحدائق أو مستخدمين.

  يقول فراس: راتبي لا يتجاوز 10 آلاف ليرة، وهو محسوب على (القرش)، خمسة منها لإيجار بيت متواضع في مزة بساتين، والبقية نأكل بها ونشرب، وأما بعض الدخل فأحصل عليه من بسطة المساء.

أبو خالد وهو شخصية يحتاجها الناس قبل الظهر أي في الوظيفة، وأما في المساء.. يقول الرجل: أعمل سائق تكسي عمومي، ومهنة كهذه تحتاج إلى صبر وروح طويلة، والزبائن أنواع، منهم الجيد، ومنهم من يتعامل معك على أنك سائقه.

(مراد.. ف) موظف في بلدية بريف دمشق.. صريح ومرتش يشكو: لا أخفيك على أننا مررنا بأيام عز، ولم نكن نحسب حساب هذه الأيام، وعلى شعار اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب صرفنا ما جمعناه، فعلى الأقل كان يأتينا في الشهر مبلغ محترم، ليس أقل من 10 آلاف ليرة، وفي بداية الأحداث بدأ الناس يبنون ويخالفون ولم نعد نجرؤ على طلب أي مبلغ من أحد.. والحال مستمر.

عاطلو التربية

(رياض.ن) أستاذ مدرسة يعرفه كل سائقي كراج الانطلاق الغربي، والجميع يناديه باحترام عندما يأتي دوره يا أستاذ رياض.. الرجل ينتقد واقع التعليم في سورية دون مواربة، وقد أخذ على عاتقه أن لا يعطي درساً خصوصياً، وأن لا يدخل بيته طالب من مدرسته، وهو يقدم خدماته المجانية لأبناء الجيران.

الأستاذ رياض يقول: المنهاج الجديد أدى إلى أن يتكاثر المدرسون الخصوصيون، ويزيدون من أجر ساعاتهم، وبعض الأساتذة جعل من المهنة الجليلة مصدراً لجمع الثروات، هل تصدق أن أستاذاً معي في المدرسة هو صاحب (سرفيس)، وبعضهم استثمر في نفس المجال، وصار لديه مدرسة خصوصية، وأما الذين ما زالوا على عهد الأستاذ رياض (يشير إلى نفسه) فهذا وضعهم.. بالكاد نحيا.

برسم الكساد

لم يتضرر الفقراء فحسب، وليسوا وحدهم يشكون، فالكبار أيضاً تأثروا، وبعضهم يرى أن الفقير واقعه أفضل، وينظرون إليه بعين الحسد.

صاحب محل في الجسر الأبيض: انظر ما عدد الناس في الشارع تعرف حالنا، الساعة الآن السابعة مساء وهو وقت ذروة الحركة، ونحن منذ أشهر على هذه الحالة باستثناء الأعياد، هنا سوق وليس حارة شعبية، وضريبة المحل باهظة، والسوق راكدة.

في الصالحية أنت في قلب دمشق الاقتصادي، وهنا لا تتغير عبارات التشاؤم، ويحدثني صاحب المحل الستيني عن ذكريات السوق، ولكنه يختم قائلاً: في هذه السنة خفضنا الأسعار أكثر من مرة، وفي كل شهر نعلن عن تنزيلات جديدة، والله لم نبع بهذه الأسعار إلا في هذه الأوقات العصيبة، وبالقرب من هنا محل ابني فقط اقرأ العبارة التي على الواجهة (أية قطعة بـ 350 ليرة)، بالله عليك هل هذه سوق عريقة ولها تاريخ.

 في السوق أيضاً نسأل فتاة تبدو متأنقة المظهر، وممن يبحثن عن الموديل، ولكنها تبتسم عندما قلنا لها إن الأسعار معتدلة، تقول الفتاة: أنا لا أبحث عما أشتريه، وهذه من عاداتي التي قد تغيرت، والأسواق تنوعت، وأنا أشتري من البالة الأوربية فهي أرخص وذات جودة أفضل.

أم ومعها ابنتاها ينتقلن من محل لآخر.. تقول الأم: الأسعار أرخص من زمان، ولكن الأحوال المالية لم تعد تسمح بأن نشتري أكثر من قطعة كل شهرين، وفي الأعياد.؟

الأزمة.. بنكهة العيد

الناس العاديون الذين كانوا من قبل لا يأبهون بالسنة ولا بأعيادها، هم فقط يتذكرون عيد الفطر والأضحى باعتباره حدثاً اجتماعياً ودينياً.. هؤلاء ينتظرون أمام حاجاتهم التي تجعل أبناءهم ينامون بدفء، وبيوتهم صالحة للسهر.

في واقع الحال لم أتجرأ على سؤال أي منهم عن نهاية السنة، وكيف يعد لآخرها، واعلم يقيناً أنهم سيشعرون بالامتعاض وتفاهة السؤال، وعدم الذكاء في اختيارهم ليتحدثوا.

هنا في هذه الأمكنة من الممكن أن تسأل عن أحوالهم، والجميع من الممكن لو وقفت في أول الطابور وصرخت  بهم ما أحوالكم، سيجيب الجميع بصوت واحد: متعبون؟.

على اسطوانة غاز يجلس الرجل والمرأة والولد ينتظرون أن تصل الحافلة التي تحمل الغاز، ومن ثم ينتظرون أن يكون العدد كافياً، وتبقى أمامهم مهمة واحدة هي تحمل سفالة الموزع، وسلطته التي منحته إياها الحوائج.

في طابور طويل يصطف الباحثون عن المازوت في مساء بارد، وعتمة قاسية.. يقول أبو قاسم: كل ثلاثة أيام لي موعد مع الجيران في الكازية.. هنا من الممكن أن تلتقي مع جار قديم، وزميل دراسة منذ 20 عاماً.

سائق سرفيس يقص لك حكايات الركض وراء المازوت بلونيه الأحمر والأخضر، والساعات الطويلة لكي يعمل ثلاثة أشخاص يمثلون ثلاث عائلات لكي يحصلوا قبل الذهاب إلى بيوتهم على 300 ليرة ثمناً لطعام الأولاد.

بريد سنة استثنائية

بالطبع ليست سنة عادية هذه الـ 2011، والسوريون سيتذكرونها بكامل أساهم ودموعهم، كثيرون ماتوا، وآخرون يئنون من جراح وفاقة، وكما أردنا أن نفض هذا البريد السنوي استعداداً لموسم زينة ويوم غناء لكنه لن يمر هذا العام، وإن استطاع البعض أن يفعلوها فكثير من الألم ينتظر الروح عند تمام الثانية عشرة.

أيتها السنة الكئيبة بكل ما فيها، وأيتها الأيام الباقيات على وداعها كوني برداً وسلاماً على كل السوريين، فالجراحات لن تلتئم في الثانية الأخيرة من عمر السنة.. سلاماً أيها السوريون بفقركم المسالم، وتراتيلكم التي ترددونها في الطريق إلى أرزاقكم العسيرة.