ملاحظات «صناعية»

ملاحظات «صناعية»

معظم ورش صناعة الموبيليا في سورية، وخصوصاً تلك الموجودة بكثرة في مختلف مناطق وقرى وبلدات ريف دمشق الشرقي، والتي تشغّل نحو خمس عشرة ورشة مختلفة من المهن التابعة لها، تم إغلاقها وصرف معظم عمالها المهرة منها، أو راحت تعمل بالحدود الدنيا، بعد أن تم إدخال الموبيليا التركية والصينية إلى السوق المحلية عن طريق أحد أكبر التماسيح المالية في سورية، والذي احتكر هو وقلة من التجار العاملين في فلكه استيراد هذه السلعة وأغرقوا السوق المحلية بها..

ومن يمر في هذه البلدات، وتحديداً: عربين، زملكا،، جوبر، بيت سوى، حزة، مديرة، كفر بطنا... ويشاهد حال هذه الورش التي ظلت عامرة حتى ما قبل دخول النيوليبرالية الدردرية إلى بلدنا وتحكمها بأرزاق العباد فيها، يدرك أحد أسباب تعاظم الاحتجاجات في هذه المنطقة، وإصرار الناس على عدم العودة إلى بيوتهم قبل إنصافهم وتحقيق مطالبهم المشروعة.

معظم الورش الصغيرة والمتوسطة العاملة في صناعة النسيج بمختلف أنواعه، تلقت بدورها ضربات موجعة، وأفلست بالجملة، وتشرد العاملون فيها، وأغلق الجزء الأكبر منها بعد أن غزت الألبسة الصينية والتركية والهندية والشرق آسيوية الأسواق بشكل سرطاني، وبات العدد الأكبر من العاملين في هذه المهنة أجراء لدى الآخرين، أو طرقوا أبواب السفارات بحثاً عن بلد يشغلهم في أية مهنة أخرى، أو يقبلهم في مصانعه الكبيرة التي لا ينقص بلدنا أي شيء كي تملك الكثير منها، وخاصة على أطراف المدن الكبرى.. علماً أن النساج السوري ذو سمعة كبيرة في مختلف أنواع العالم، ومشهور ببراعته وخبرته وإتقانه لمختلف فنون العمل في مجال الأنسجة، كما أن النسيج السوري يعد من أفضل الأنسجة في العالم.

كل أنواع الصناعات التقليدية (زجاج، خزفيات، ثريات، تحف زينة، آلات حرفية، آلات موسيقية، مدافئ...) أخذت نصيبها من تحرير التجارة والانفتاح على الأسواق العالمية، واكتوت بنيران توصيات صندوق النقد والبنك الدوليين ومن ينطق باسمهما ويتبع تعليماتهما وأوامرهما، فلم يبق للعاملين بها ما يسد رمقهم، ما اضطرهم إلى تغيير مهنهم وصفة محلاتهم وورشهم، وأصبحوا تجاراً صغاراً بالكاد يستطيعون أن يبيعوا بضاعة الآخرين القادمة من وراء البحار، أو قاموا هم أيضاً بحمل أمتعتهم والهجرة إلى خارج البلاد، عساهم يجدون من يهتم لأمرهم ويقدر مهارتهم وإبداعهم..

تلك هي الليبرالية الجديدة، وهذا بعض ما أثمرته طوال ما يقارب العشر سنوات، وبالتأكيد، فإن ما يجري في البلاد الآن من اضطرابات واحتجاجات صارخة، وما تلاها من أزمة وطنية عميقة، ومن ثم عقوبات اقتصادية من كل نوع، ومن كل حدب وصوب، هي من نتيجة تبني واعتناق هذا الداء الذي شل البلاد وجعل كل شيء فيها قابلاً للانفجار.. واللافت هنا أن من دفع بهذا الاتجاه وزينه، ووعد الناس أنه سيكون خلاصهم وسيحقق لهم البحبوحة والرغد، كان أول الهاربين من اللوحة العامة بعد أن ظل سيدها ونجمها سنوات عدة. أما مصدر الإيعازات العالمي فكان أول من سن أسنانه وكشف عن أنيابه، وما يزال يحاول أن يطبق الحصار على سورية، كونه أكثر العارفين مدى إنجازاته على صعيد لقمة الناس، وعلى صعيد المستوى الكارثي للصناعات الوطنية السورية.