كوبا: الحياة في وجه الموت
هادي المصري هادي المصري

كوبا: الحياة في وجه الموت

تتميز المرحلة التي نمرّ بها، بمحاولات الرأسمالية الدائمة فرض فكرها، وإسقاط مفاهيم وتصورات هي أداة لشرعنة الواقع.

فيفرض المركز الرأسمالي نفسه في الحقل الأيديولوجي، كعلاقة سيطرة على الأطراف. وأبرز مثال على ذلك هي الصورة التي صنعها عن كوبا، وهي أوضح نموذج لجميع تصرفاته في مواجهة هذه التجربة وإنعكاساتها على العالم.

العامل التاريخي:

بعدما وصل الإسبان عام ١٤٩٢ إلى الجزيرة وأسسوا هافانا عام ١٥١٥، قضوا على سكان الجزيرة الأصليين (التاينو والسيبوني)، الذين عرفوا نظاماً إجتماعياً قائماً على الروح الجماعية والتعاون وغياب الملكية الخاصة والاحتكار والتي كانت مظاهر تنخر المجتمع الأوروبي. فكان من الطبيعي على منظّر الرأسمالية آدم سميث أن ينعتهم بالبرابرة والوحوش كمقدمة للقضاء على أكثرهم. وفي الفترة التي سبقت القرن الثامن عشر لم يكن الإقتصاد في الجزيرة يقوم إلا على استغلال الطبقة البرجوازية (الأوروبية) للمواد الأولية المحلية وتصديرها إلى أوروبا. 
تبلور الاقتصاد الكوبي مع بداية القرن التاسع عشر باعتباره إقتصاداً يقوم بالدرجة الأولى على تصدير السكّر. ويعود ذلك إلى عدة أسباب، أبرزها الثورة في هايتي عام١٧٩١ والتي أوقفت تصدير السكّر. وكان نصف الشعب الكوبي مقيّداً بنظام العبودية التي كانت البرجوازية الكولونيالية تديره. 
تميّز القرن التاسع عشر بالثورات والإنتفاضات في كوبا. فبعد أن كانت "الجزيرة الأكثر إخلاصًا دائمًا" في ١٨٢٠، أصبحت الجزيرة المتمردة مع بداية حرب السنوات العشر بقيادة دوسيسبيديس(ومن بعده تحركات كالكيستو غارسيا) والتي انتهت بإصلاح هو إلغاء الرق عام ١٨٨٦. 
ظلت التناقضات داخل المجتمع الكوبي تتنامى حتّى حرب الإستقلال١٨٩٥-١٨٩٨(بقيادة خوسيه مارتي التي توفي عام ١٨٩٥)، والتي انتهت بإخراج الإسبان من كوبا، بمساعدة الولايات المتحدة (وكان ماكينلي رئيساً للجمهورية)، وقتل ما لا يقل عن ٤٠٠ألف كوبيّ. طبعاً لم يكن تدخّل الولايات المتحدة هو بهدف استقلال كوبا أو بهدف إلغاء العبودية، كما تعودنا أن نسمع قبل كل تدخل أمريكي في العالم: كان لهذا التدخل أسباباً إقتصاديةً. فعام ١٨٧٥ كان ٧٥% من السكّر الكوبي يُصدّر إلى الولايات المتحدة، كما أن موقع كوبا الجغرافي كان قد سمح لها بالتحكم بمضيق بنما الإستراتيجي، بالإضافة إلى أن كوبا كانت صلة الوصل بين أميركا اللاتينية وأوروبا، بحيث أن السفن الأوروبية كان يجب أن تتوقف في كوبا.
وبعد هذا التدخل العسكري، فتح الباب للعبودية في شكلها الإمبريالي عبر استغلال البلاد واستنزافها من قبل الشركات الرأسمالية. 
وقد إستغلت هذه الشركات (أمثال شركات مورغان وروكفلر وغيرها) استخراج النفط والحديد، وسيطرت على زراعة الفواكه وقصب السكّر، كما احتكرت المصارف. وغالباً ماكانت سياسات الحكومات تُرسم باتّساق مع مصالح هذه الشركات خاصة البرجوازية المحلية التي ارتبط وجودها بهذه الشركات. 
وهكذا فإن التناقضات في المجتمع الكوبي قبيل ثورة كاسترو كانت على أشدّها. بلغ عدد الأميين عام ١٩٥٠ حوالي ٤١،٧% من الشعب، بالإضافة إلى حوالي ٦٠٠٠٠٠ طفل خارج المدارس. وبالطبع، فقد تمّ استخدام هذا النظام لإبقاء العمل شبه المجاني في الأراضي الزراعية. وكان لكل ١٠٦٧ مواطن طبيب واحد غالباً ماكان يقطن هافانا، وكان العامل يتقاضى الكوبي حوالي ٧٥ بيسوس شهرياً بينما كانت زيارة الطبيب مثلاً تكلّف حوالي ١٥بيسوس. ومن هنا فإن بؤس المجتمع الكوبي قبل الثورة لم يكن مردّه إلى سياسات فاشلة للبرجوازية المحلية، بل إلى نظام إمبريالي يؤبّد نفسه كما يقول إدوارد بورشتاين. 
وبالإضافة إلى كل هذه التناقضات، برزت في كوبا أزمة المافيات، حيث كان نظام باتيستا على تعاون وثيق مع رؤساء المافيات الذين استباحوا البلد، بحيث تمّ تنظيم أكبر اجتماع للمافيا في هافانا عام ١٩٤٦ بدعوة من ماير لانسكي و لاكي لوشيانو.

الثورة
وسط هذه التناقضات، قامت الثورة الكوبية بقيادة فيدال كاسترو. ففي الثاني من كانون الثاني من عام ١٩٥٦، أنزلت سفينة الغرانما الشهيرة ٨٢ مقاتلاً على شواطئ الجزيرة، وكان من بينهم فيديل كاسترو وراوول كاتسرو وإيرنيستو غيفارا. وبسبب غياب توازن القوى العسكرية بين الطرفين (جيش باتيستا كان تعداده حوالي ٤٠ألف جندي وسلاحه من الولايات المتحدة الأميركية)، أخذت الحرب شكل حرب إستنزاف، بحيث كانت قوات الثورة تشن هجماتها من جبال السييرا مايسترا ثم تعود لتتحصن في الجبال. 
وفي تلك الفترة إكتسبت الثورة قاعدة جماهيرية وخصيصاً بعد إنشاء الإذاعة في شباط ١٩٥٧. أما بالنسبة للفلاحين فقد إختبروا التقلبات التي كانت تفرضها الأحداث، إذ تعرّضوا للتعذيب والقتل بعد وقوفهم مع الثوار إثر هزيمتهم في إحدى المعارك. وإذ كانت البلاد كلها في حالة تمرّد، قام الطلاب بمحاولة لاحتلال قصر باتيستا وقتله في ١٤آذار ١٩٥٧. ومع سقوط مدينة سانتا كلارا بعد هجوم الثوارعليها، هرب باتيستا من البلاد.

بعد سيطرة الثورة الكوبية على الحكم، قام فيديل كاسترو بتأميم النفط وطرد الشركات الغربية المستثمرة في قطاعات السكّر والسياحة والنفط. كردّ على هذه الخطوات، فرضت الولايات المتحدة الأمريكية حصاراً على كوبا بهدف تجويع الشعب وبالتالي تبرير تدخل عسكري تحت شعار حماية "الحرية" و"الديمقراطية".وبينما كانت التجهيزات على أشدّها لغزو الجزيرة، خرج وزير الخارجية الكوبي راؤول روا في الجلسة السياسية الخاصة للأمم المتحدة قائلا: «إنني أتهم حكومة الولايات المتحدة الأمريكية أمام الرأي العام العالمي بأنها شنّت حرباً ضد كوبا من أجل أن تمتلك من جديد ثرواتها ومن أجل أن تحوّل كوبا، مرة ثانية، إلى تابع لها» وذلك بعد أن أقدمت طائرات أمريكية على ضرب مطارات كوبية عام ١٩٦١. ثم تلا ذلك في ١٥ نيسان إنزال خليج الخنازير، في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة تعتقد أن الشعب الكوبي سيقف في وجه الثوار. إلاّ أن حسابتها كانت خاطئة بحيث اتّحد الشعب في وجه من إعتبرهم غزاة، وفشل الإنزال، وتبعه محاولات تخريبية منها إحراق بعض سهول السكّر. وكان الاتحاد السوفياتي داعماً لحكومة كاسترو مرسلاً النفط والأسلحة. وبعد أزمة الصواريخ عام ١٩٦٢ أكّد الاتحاد السوفياتي أن كوبا خط أحمر ضد الغزو الأمريكي.
وقد قامت الثورة بالتغييرات الشاملة، فأمّمت الأراضي الزراعية ثم وزعتها على العمال العاملين في القطاع (إرتفع مردود العامل الفقير ٤٠% بمقابل إنخفاض المردود على الأغنياء ب٤٠%). كما إهتمّت (لاسيما في السبعينيات) بتطوير قطاع الصناعة، وقامت بتوفير الطبابة والتعليم المجانيين للجميع، وبذلك إنخفض معدل البطالة والأميّة في البلاد.

لم يكن تحقيق ذلك بالأمر السهل، خاصةّ تحت وطأة المحاولات التخريبية المفتعلة التي تقودها الولايات المتحدة، من إلقاء قنابل في المدارس أوائل الثمانينيات، حتى تفجيرات الفنادق في التسعينيات وغيرها الكثير من المحاولات التخريبية.

وكانت كوبا على إرتباط وثيق بالإتحاد السوفيتي وبجمهورية الصين اللتان إستوعبتا تصدير السكّر ومعظم الصادرات الكوبية إليهما.
ولا يمكن فهم القفزة الكوبية، إلا بفهم شروط التعاون الجماعي في العمل، وبالتالي تغييب موضوع الذات الفردية (التي تقوم الرأسمالية بفرضها)، وإلغاء فكرة الفردانية ومراكمة الثروة. 
ونجحت الثورة بإنتاج ثقافة ثورية. برز ذلك في أفلام تلك الفترة، التي تناولت موضوع تاريخ صراع الجزيرة مع الكولونيالية كفيلم "قتال كوبي ضد الشياطين" A Cuban Fight Against Demons إخراج توماس غيتيريز آليا Tomás Gutiérrez Alea الذي يروي تمرد حصل عام ١٦٧٢ على الإسبان، وفيلم "أول هجمة للخنجر" The First Charge of the Machete إخراج مانويل أوكتافيو غوميز Manuel Octavio Gómez والذي يروي فترة من حرب السنوات العشر.

وقد كانت كوبا في مقدمة البلدان الداعمة للقضية الفلسطينية، وللموقف العربي آنذاك بعد حرب ال١٩٦٧ وحرب ال١٩٧٣، وفي ذلك العام قطعت كوبا العلاقات مع إسرائيل بشكل رسمي وتام. كما قدّمت كوبا دعمها لجميع محاولات التحرر من التبعية الرأسمالية في العالم، فوقف كاسترو إلى جانب توماس سانكارا في بوركينا فاسو، وكوامي نكروما في غانا، ولومومبا في الكونغو، ومانديلا في جنوب أفريقيا، وآخرون كثر.

لكن سقوط الإتحاد السوفياتي أثّر بشكل كبير على كوبا. فشددت الولايات المتحدة الحصار، ومنعت أي سفينة ترسو في ميناء كوبا من دخول الولايات المتحدة لستة أشهر، وإنخفض النفط المستورد، ما أدّى إلى إنقطاع المحروقات والكهرباء، الأمر الذي سبب غياب النقل العام وغياب الكهرباء في 1991. إلا أن طبيعة النظام الكوبي والمجتمع، لم يسمحا لهذا البلد بالصمود فقط بل جعلاه نموذجاً عالمياً يحتذى به في مقاومة الحصار. قامت الدولة بتنشيط القطاع الزراعي من دون وجود المواد الكيميائية بالإستناد إلى العمل الجماعي، حيث لبّت مزارع المدن ٥٠% من احتياجات الناس في المدن. وكان الناس مهما إختلفت وظائفهم (عمّال، أطباء، مهندسون، الخ) يزرعون لأجل ديمومة المجتمع. أما المستشفيات فقد أمّنت خدماتها إلى كل فئات المجتمع ( خاصة عندما ظهرت مجاعة في بداية الأزمة). وقامت أبحاث لصنع الدواء، وتطورت هذه الأبحاث في مجال الطاقات البديلة ، وكل هذه الإجازات كان سببها الرئيسي غياب الأمّية في المجتمع الكوبي. وتعتبر تجربة كوبا في الطاقات البديلة هي النموذج الأساس للمستقبل فمنذ عام ١٩٤٩، عندما ظهرت التحليلات العلمية حول نهاية النفط، والعالم الغربي ينظر إلى نهاية النفط وأزمة البديل من موقعه المسيطر أي من موقعه الرأسمالي الإمبريالي. 
وإهتمّت الثورة الكوبية بالقطاع التعليمي والتربوي في الجزيرة ممّا جعلها تحقق نجاحاً بارزاً في محو الأمية، وتحقيق شعار الجامعة إمتداد للمجتمع القائمة به.

يستميت الإعلام الرأسمالي لتشويه التجربة الكوبية لأنها تشكل النموذج النقيض لفكره، مستعملاً أدوات التضليل النمطية، وشعارات كالحرية والديمقراطية والرخاء الفردي. ومن طرقه أيضاً تغييب التحليل العلمي التاريخي، وتحديداً المادي. وهذا التغييب ليس عبثاً داخل مؤسسات التأبيد الأيديولوجي، بل هو تغييب ممنهج. يطرح النظام الرأسمالي عبر إعلامه هذا طريقة لفرض سيطرة هي بالعام سيطرة الموت، بينما تطرح كوبا، من رفضها للاستعمار وسرقة مواردها واستعباد شعوبها، إلى طرحها للبدائل في الزراعة والطاقة والتعليم والطبابة والتكنولوجيا، الحياة.

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني

آخر تعديل على السبت, 27 نيسان/أبريل 2019 22:42