البشر أهم سر يحتفظ به «وادي السيليكون»
سباستيان مالابي سباستيان مالابي

البشر أهم سر يحتفظ به «وادي السيليكون»

خارج {وادي السيليكون} (سيليكون فالي) يصيب المعلقين هوس بالإنسان الآلي، والذكاء الاصطناعي، والبيانات الضخمة، في حين تنشغل أذهان أفراد القبيلة التكنولوجية بأمور أخرى، حيث لا يهتمون بالشيفرة والبرمجة بقدر ما يهتمون بالأشخاص.

ألّفت شيريل ساندبيرغ، المديرة التنفيذية للعمليات في شركة «فيسبوك»، اثنين من أنجح الكتب القادمة من عالم «سيليكون فالي» وأشهرها خلال نصف العقد الماضي، أحدهما عن ثقة المرأة المهنية والعملية، والآخر عن التكيف مع الحرمان والفقدان. كذلك يعد الراحل ستيف جوبز مؤسس شركة «آبل»، محل إعجاب وافتتان لا نهائي في «سيليكون فالي»؛ ليس لأنه اخترع أشياء؛ بل لأن تطلعه الغريب غير الاعتيادي إلى مثالية العصر الجديد قاد خطاه نحو العظمة.
كذلك قام جون دوير، أشهر رأسمالي في «سيليكون فالي»، بتأليف كتاب يوضح ويؤكد تلك المفارقة. يعد ذلك الكتاب مفيداً بالنسبة لأي شخص يخشى أن يكون التقدم التكنولوجي على حساب وأنقاض الإنسانية.
ويعد كتاب «قم بقياس ما يهم: كيف قام كل من (غوغل)، و(بونو)، ومؤسسة (غيتس) بتغيير العالم من خلال الأهداف والنتائج الأساسية»، خلاصة أربعة عقود من تجربة «سيليكون فالي»؛ بداية من السنوات الأولى لدوير في شركة «إنتل» الرائدة في مجال شبه الموصّلات، ووصولاً إلى رهانه الكبير على المشروعات الناشئة الطموحة، مثل «أمازون» و«غوغل». مع ذلك يكشف الأمر، الذي اختار دوير التركيز عليه، الكثير. رغم أنه مهندس، يكتب قليلاً عن التكنولوجيا؛ ورغم أنه مستثمر، لا يتحدث عن المال، بل يركّز كتاب دوير على الأشخاص بشكل أساسي، وكيفية إثارة الحماسة في نفوسهم، وتكوين فرق عمل منتجة، وكيفية ربطهم في شكل شبكات.
لدى دوير الكثير ليقوله عن التجارب التي كونت شخصيته في «إنتل» خلال سبعينات القرن الماضي؛ لكن ليس من بين الشخصيات القيادية في شركة «إنتل»، التي يبجلها ويكنّ لها الاحترام، غوردون مور، أحد مؤسسي الشركة، الذي توقع القانون، الذي يحمل اسمه، الإلكترونيات الحديثة، أو روبرت نويس، المهندس الذكي. عوضاً عن ذلك تأثر دوير كثيراً بأندرو غروف، المهاجر المجري المتوتر دوماً، الذي نظّم مبيعات «إنتل»، وفرّق المنتج بمساعدة أداة إدارية يطلق عليها الأهداف والنتائج الأساسية. 
يشير العنوان الفرعي في النسخة البريطانية إلى تلك الأداة بأنها «الفكرة البسيطة التي تحقق نمواً أكبر بعشرة أمثال». ويرى دوير أن وضع أهداف أساسية، وتحديد خطوات يمكن قياسها لتحقيق تلك الأهداف، يحدث تحولاً للشركات ومحبي الأعمال الخيرية على حد سواء. مع ذلك الأمر المثير للعجب حقاً هو أن التعلم من الأشخاص قدر الإمكان، هو ما يثير اهتمام دوير أكثر من التعامل مع الدوائر الكهربائية.
يكشف أبطال دوير الآخرون بعض الأمور الأخرى. إنه يقتبس قول بيتر دراكر، الشخصية البارزة في عالم الإدارة: «الدور الأساسي للمدير هو دور شخصي؛ فهو مرتبط بالعلاقة مع الناس وتكوين مجتمع». كذلك أورد قولاً محبباً منسوباً إلى ألبرت أينشتاين، هو «ليس كل ما يمكن عدّه وحسابه مهماً، وليس كل شيء مهم يمكن حسابه وعدّه». 
كذلك يبجل لاري بايدج، أحد مؤسسي شركة «غوغل»، ليس بصفته مهندساً ملهماً شارك في اختراع أفضل محرك بحث في العالم؛ بل كمدير تبنى فكرة الأهداف والنتائج الأساسية، حيث يخصص يومين في كل ربع من السنة للنظر في طريقة صياغة كل هدف بشكل دقيق لكل مبرمج في «غوغل».
يختتم دوير كتابه بالثناء على بيل كامبل، الذي يعد بشكل ما منافساً خفياً لستيف جوبز، باعتباره المرشد في «سيليكون فالي». لم يكن كامبل مهندساً أو صاحب رؤية عامة شاملة؛ بل كان الشخص اللطيف الموجود في الغرفة الخلفية، الذي يمتلك موهبة تكوين الصداقة، وكان يشتهر باسم «المدرب»؛ لأنه كان يعمل في السابق مدرب كرة قدم في فرق الكليات. ولكونه موهوباً في إرشاد وتوجيه المسؤولين التنفيذيين في «سيليكون فالي»، كانت الشخصيات القيادية في كل من «غوغل» و«آبل» و«أمازون» تطلب مشورته القاسية، وعند وفاته منذ عامين، حضر جميعهم جنازته. كان كامبل، كما يكتب دوير: «مستمعاً من الدرجة الأولى، ومرشد المشاهير»، ورجلاً شكّلت «إنسانيته العميقة» ثقافة عشرات الشركات في «سيليكون فالي».
ما الذي يعنيه تأليف شخصية بارزة في مجال التكنولوجيا، لديها الكثير لترويه، كتاباً، ويتناول ذلك الكتاب البشر؟ متى يبدو رجل جنى المليارات من المكونات المادية والبرمجيات مهتماً لأقصى درجة بما يطلق عليه بعض التقنيين «الجوانب الحية»؟ يخبرنا ذلك بأنه مهما بلغت التكنولوجيا من تقدم، فما زلنا نعيش في عالم متمركز حول الإنسان، وعلى الأرجح سنظل نعيش في ذلك العالم. 
يشير دوير إلى قول دوف سيدمان، المفكر البارز في عالم الأعمال: «في عالمنا ذي المصادر المفتوحة، وشديد الاتصال بعضه ببعض، السلوك هو ما يحدد شكل وكيان شركة ما، فهو الشيء الوحيد الذي لا يمكن تقليده أو تحويله إلى سلعة». أداء الشركات التي تتبنى ثقافة توجهها القيم القوية، أفضل في تحفيز العاملين والاحتفاظ بهم، وكثيراً ما تحقق نجاحاً أكبر في الابتكار.
يصطحبنا دوير في جولة مستقبلية، حين يتحدث عن شركة ناشئة تصنع البيتزا باستخدام الإنسان الآلي، وأخرى تستعيض عن المدربين واختصاصي التغذية بتطبيق على الهاتف الذكي؛ لكن ما نجده في كل دراسة حالة هم الناس... الناس الذين يحتاجون إلى تشجيع وتمكين، والذين سيكونون في أسعد حال عندما يشعرون بأنهم جزء من فريق عمل متعاون. 
لقد مضى الزمن الذي سادت فيه خطوط الإنتاج التي تنزع عن العالم الإنسانية، والأوامر الصارمة التي يوجهها المدير إلى العاملين، وذلك تحديداً لازدياد قيام الإنسان الآلي بالوظائف التي تنزع الإنسانية. 
على عكس طريقة التفكير التقليدية السائدة، تجبر التكنولوجيا البشر على الرهان بشكل أكبر على إنسانيتهم.

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني

آخر تعديل على الأحد, 28 نيسان/أبريل 2019 23:48