انهيار السوق
غريس بليكلي غريس بليكلي

انهيار السوق

بدت الأمور جيدة للقطّاع التمويلي في أيام السُكر السابقة للأزمة المالية. ففي بريطانيا نما ما بين 1970 و2008 أكثر بمرة ونصف أسرع من إجمالي الاقتصاد. كان يشكل التمويل في عام 1970 5% من المخرجات الاقتصادية ويجني 1.5% أرباح. بحلول عام 2008 ارتفعت هذه الأرقام لتصل إلى 15%. انتهت هذه الفقاعة بأزمة 2008 عندما التزمت الحكومة البريطانية بـ 500 مليار جنيه إسترليني على الأقل لإنقاذ المصارف. لكن لم يتوقف الانهيار هنا: فتقديرات آثار الأزمة على الاقتصاد الحقيقي للمملكة المتحدة تبيّن بأنّ المخرجات الضائعة هي بين 2 و7 ترليون دولار.

تعريب: عروة درويش

وفي زحمة أصوات جوقة المهللين للتأثيرات النافعة للقطّاع المالي على النمو وعلى عائدات الضرائب وعلى الصادرات، سيُغفر لك الاعتقاد بأنّ الأزمة كانت فقط بمثابة فعل سهو لم يؤثر على استمرار الحفلة. لكن في الحقيقة لديها جذور أعمق من الإخفاق التشريعي الذي وقع بلا شك قبل عام 2007. إنّ كلا الوعكة الاقتصادية الحالية والأزمة المالية نفسها يمكن تتبع آثارهما إلى ما حدث في الثمانينيات، وهو ما أدّى لظهور حقبة رأسمالية جديدة: حقبة رأس المال المالي.

  • طبيعة التحوّل لرأس المال المالي:

لفهم رأس المال المالي علينا أولاً أن نفهم طبيعة التمويل. يمثل التمويل نمط تراكم – أي وسيلة لجني المال – متمايزة عن غيرها من الأنماط مثل الصناعة أو التجارة. فبدلاً من استخدامهم لرأس مالهم لإنتاج بضائع أو خدمات للإتجار بها، يقوم الممولون بخلق والإتجار بالأصول المالية. وتأخذ هذه الأصول في الغالب شكل وعدٍ بدفع كمية من رأس المال في وقت ما في المستقبل. مثال: يمثّل السهم وعداً بكسب مستقبلي. وبالتالي فإنّ النشاطات المالية الأساسية هي الإقراض والمضاربة، وكلاهما متقاربان مع بعضهما لدرجة متشابكة. مثال: أثناء التقدّم نحو الأزمة المالية، كانت المصارف تقرض المال للمستهلكين لشراء المنازل ثمّ تحوّل تلك الرهونات إلى سنداتٍ يمكن الإتجار بها في الأسواق المالية.

تتولى المصارف عادة مثل هذه النشاطات المالية، لكنّها ليست المؤسسات المالية الوحيدة الموجودة في الاقتصادات المعاصرة. فالتحوّل إلى رأس المال المالي يتضمن في الواقع التوسّع في منطق التمويل إلى مجالات من النشاط الاقتصادي غير مالية تقليدياً. تشترك الأسر والشركات والحكومات اليوم بالتحويلات المالية أكثر من أيّ وقت مضى. البعض دائنون وآخرون مدينون، لكنّ الجميع متشابكون بطريقة متزايدة في شبكة من الحقوق والمسؤوليات التي يجد الكثيرون استحالة في الهرب منها.

وبهذا المعنى فلا يجب أن نرى التحوّل لرأس المال المالي ناجماً عن هيمنة المصارف على الأعمال، أي بسياق تفضيل رأسمالي «جيّد» على رأسمالي «سيء». بل علينا أن نراها كآلية كيّف من خلالها جميع الرأسماليين سلوكهم بناء على واقع اقتصادي جديد. يمكننا عبر تحليل سلوك عدّة لاعبين اقتصاديين مختلفين أن نبدأ بتعقّب الأساليب التي أثّر فيها رأس المال المالي على اقتصادنا وسياستنا ومجتمعاتنا على مدى الأعوام الأربعين الماضية.

  • إدخال رأس المال المالي في كلّ شيء:

أولاً دعونا ننظر إلى الأسر. ارتفعت نسبة الدين على الأسر من حوالي 80% من كامل الدخل المتاح «disposable income» في الثمانينيات إلى 140% منه في الوقت الحالي، وقد وصل إلى ذروته عند 160% قبل الأزمة. وحتّى تتجاوز الأجور الحقيقية مستويات ما قبل 2008، فإنّ المستهلكين عالقين في عبء ديون ضخمة. لقد نشر مكتب الإحصاء الوطني في حقيقة الأمر مؤخراً بيانات تظهر بأنّه في عام 2017، ولأول مرة منذ عام 2008، قد تجاوز إنفاق المستهلكين لمداخيلهم حيث تمّت تغطية النقص بالاقتراض. إنّ قسماً متزايداً من دخل الأسر المتاح موجهٌ الآن ناحية دفعات الفوائد بدلاً من توجيهه نحو الاستهلاك، وهذا يعني زيادة في أرباح الممولين على حساب النمو الاقتصادي.

لكنّ ارتفاع المديونية لم يكن أمراً سيئاً بشكل موحد بالنسبة للمستهلكين في المملكة المتحدة. ففي واقع الحال وعبر استخدام الدين في شراء أصول كانت قيمتها في ارتفاع، أصبح العديد من المستهلكين أثرياء بشكل لا يصدّق. ويبدو هذا واضحاً عندما يتعلق الأمر بالإسكان. فقد خلق تمديد الائتمان العقاري منذ الثمانينيات وصاعداً فقاعة في أسعار المساكن، وهو الذي زاد أضعافاً بين عامي 1979 و2008. وفي حين أنّ هذا الأمر قد أخرج العديدين من السوق، فقد جعل من غيرهم أثرياء جداً. لقد خلق انتشار ملكية المنازل ومعه خصخصة معاشات الناس التقاعدية، طبقة من «الرأسماليين المنمنمين» الذين تربحوا من اشتراكهم بالنظام المالي. لقد احتاج مالكو المنازل وأولئك الذين لديهم صناديق تقاعد خاصّة فقاعة ما قبل 2008 للاستمرار إلى أجل غير مسمى، وهذا هو سبب استمرارهم في دعم هذا النظام.

ثانياً: تحوّلت شركات غير المالية لتصبح مالية بشكل متزايد. فمنذ الثمانينيات تمّ فصل الإدارة اليومية للشركة عن ملكيتها: يمكن لمدراء الشركة التنفيذيين أن يمتلكوا بعض الأسهم في الشركة التي يديرونها، لكنّ الوسطاء الماليين مثل صناديق التحوط وصناديق التقاعد هي على الأرجح التي تملك أكثرية الأسهم. صحب هذا ارتفاع في فكرة أنّ مسؤولية المدراء الأساسية هي «تعظيم القيمة التي يجنيها حملة الأسهم MSV»، وذلك عموماً عبر تعزيز أسعار الأسهم. لدى الشركات الخيار بين توزيع أرباحها على حاملي الأسهم أو إعادة استثمارها. وكجزء من النمو تبعاً لإيديولوجيا «MSV»، فقد تمّ ابتكار حوافز المدراء التنفيذيين لتوزيع المال على حاملي الأسهم على الفور، وذلك بدلاً من استثماره بطريقة تعزز ربحيّة المؤسسة بشكل لاحق. قاد هذا الأمر إلى وصول الاستثمار الخاص إلى مستويات متدنية قياسية. ويعني تدني مستوى الاستثمار إنتاجية أدنى في المستقبل، وهذا أحد العناصر الهامّة المسؤولة عن مشاكل الإنتاجية في المملكة المتحدة.

وبصرف النظر عن زيادة كمية الأموال التي يتم توزيعها على حاملي الأسهم، فإنّ بعض الشركات الكبيرة جداً تستثمر رؤوس أموالها الزائدة في الأسواق المالية بدلاً من استثمارها في مجالاتها المنتجة الخاصة. إنّ لدى بعض الشركات اليوم رأس مال كبير يمكنها من التصرّف بشكل فاعل مثل المصارف وصناديق التحوّط، حيث تقوم بأخذ رأسمالها الفائض وتقرضه لغيرها من الشركات، أو تستخدمه في المضاربات. حتّى أنّ بعضها تقرض رأسمالها الفائض للمستهلكين: فشركات السيارات تبيع السيارات على الائتمان منذ عقود، وهناك الكثير من المتاجر اليوم تعرض خطوطاً شبيهة للائتمان على بضائع استهلاكية أصغر حتّى. كلما زاد رأس المال الفائض لدى شركة ما، كلما كانت قادرة أكثر على التربّح من التحوّل لرأس مال مالي: وقد دفعت المخزونات الهائلة من السيولة النقدية التي تملكها شركات مثل آبل وغوغل البعض إلى القول بأنّ هذه الشركات أصبحت الآن أقرب إلى المصارف منها من الشركات التقليدية.

أخيراً: لقد باتت الدولة نفسها متحولة إلى رأس مال مالي في السنوات الأخيرة. إنّ أوّل وأكثر الطرق وضوحاً الذي حدث فيه هذا الأمر هو عبر الاعتماد على التمويل الخاص. الإيديولوجيا خلف هذا النوع من التمويل الخاص هو أنّه في سبيل الاحتفاظ بنفقات كبيرة لرأس المال «غير مسجل بشكل رسمي»، فعلى الدولة أن تستعين بمصادر خارجية لتمويل المشاريع لصالح القطاع الخاص. توافق الحكومة على التسديد للشركات على مدى بضعة عقود مزودة إياها بدفق دخل ثابت طويل الأمد خالٍ من المخاطر في مقابل إنفاق أولي لرأس المال. ففي حين أنّه تمّ الحجاج بأنّ هذا الأمر سيكون أزهد ثمناً وأكثر فاعلية بالنسبة لدافعي الضرائب، فقد وجد مكتب تدقيق الحسابات الوطني مؤخراً بأنّ بعض المشاريع كلفت 40% أكثر من تكلفتها لو لم تقم الدولة بالاقتراض. في الواقع يقول البعض بأنّ دور الدولة المدمجة في رأس المال المالي قد بات بشكل متزايد خلق الفرص للقطاع الخاص للتربّح من الإنفاق العام: مثلما حدث عند بيع بنك إسكتلندا الملكي أو البريد الملكي بأسعار زهيدة أو خصخصة الخدمات العامة مثل «خدمات الصحّة الوطنية» والرعاية الاجتماعية.

ترى الدول بشكل متزايد أنّ من مصلحتها الاضطلاع بهذه الأنشطة بسبب النظام الذي يمكن أن تمارسه عليها أسواق المال المعاصرة. فمن أجل اقتراض المال، تصدر الدول سندات حكومية تبيعها للمستثمرين. يرتبط الطلب على الدين الحكومي بشكل عكسي بالعائد، فكلما كان الطلب أعلى كلما تدنت دفعات الفوائد. يمنح هذا الأمر السوق سطوة هائلة لفرض ما تريده على الدول التي تخفق بالالتزام بالجدارة الائتمانية. الدول التي تخفق بفرض السياسات النيوليبرالية يمكن أن تتم معاقبتها عبر بيع سنداتها الحكومية على نطاق واسع (وكذلك عبر سحب عملاتها من المصارف). لا يهم إن كان إجبار هذه الدول على تطبيق سياسات اقتصادية نيوليبرالية يقلص في الواقع من جدارتها الائتمانية على المدى الطويل، فالمدى التي ترى ضمنه الرأسمالية المالية هو الأقصر من بين جميع الفترات في التاريخ.

  • ماذا بعد؟

لقد كانت أزمة 2008 الأزمة البنيوية لنموذج رأس المال المالي. إنّ التوعك الاقتصادي الذي نشهده منذ ذلك الوقت ناجمٌ عن محاولات ترقيع تناقضات النموذج القديم والإخفاق في الانتقال إلى شيء جديد. إنّ الأسر في حالة مديونية شديدة بحيث لا يمكنهم أن يديموا مستويات كافية من الاستهلاك ليتسهلكوا ما تنتجه الأعمال. إنّ مستويات الاستهلاك المتدني هذه هي بشكل جزئي السبب في إخفاق مجال الأعمال في الاستثمار في توسيع مخرجاتهم. وليست الدولة راغبة في التدخل لسدّ هذه الثغرة مخافة أن تثير غضب المستثمرين الدوليين.

لكنّ لحظة الأزمة هي كذلك لحظة الفرصة. فخلال الأعوام القادمة يحتمل أن نصل نقطة حيث غالبية الناخبين يعتقدون بأنّهم سينتفعون أكثر من تحويل النظام بدلاً من الحفاظ على الوضع الراهن. تعني مستويات الاستثمار المتدنية انخفاضاً في الإنتاجية وموجات من الركود، وكلتاهما تغذيان مشكلة الديون الاستهلاكية المذكورة في الأعلى. إنّ أيّ أحدٍ لا يمتلك رأس مال – أي معظم السكان – ستسوء حالتهم كلّ عام ضمن النموذج الاقتصادي الحالي كامل المستقبل المنظور. وحتّى أولئك الذين يملكون رأس المال فسوف يتم «عصرهم» بشكل متزايد. إنّ النظام غير قادر على إدامة زيادة الثروة بالاعتماد على الدين، فقد كانت مكاسب رأس المال المدعومة واضحة بشكل مؤلم في عام 2008. إنّ الرأسمالية المتأخرة بعد انفجار فقاعة الدين تعني انخفاض مستويات المعيشة وتزايد اللامساواة وزيادة الاضطراب السياسي الناتج عن ذلك.

هذه هي التغييرات التي تكمن وراء صعود كوربين. لكن على اليسار أن يفعل أكثر من الإضاءة على الأمر. يعلم معظم الناس بأنّ الرأسمالية معطلة، لكن قلّة منهم من يمكنه أن يخبرك بالسبب.

على الحديث الاقتصادي لقادة حزب العمّال الحاليين أن تمضي إلى ما وراء «التقشف سيء» إلى تشخيص أوسع للظروف البنيوية التي قادت الاقتصاد للانهيار عام 2008، والتي تركته في غرفة الإنعاش منذ ذلك الحين. كان بيان عام 2017 ممتازاً نظراً للقيود التي تمّت صياغته في إطارها، ولكنّه ليس أكثر من امتداد للتسوية «الاشتراكية الديمقراطية» التي باتت بالفعل تحت ضغط الرضوخ لرأس المال المالي على طول الشمال العالمي.

على العمّال في المرّة القادمة أن يصدروا بياناً يكشف الطرق التي تمّ من خلالها استغلالنا جميعاً عبر وكلاء رأس المال المالي وأن يظهر لنا كيف يمكن لنا أن نخضعه للسيطرة الديمقراطية. على اليسار أن يصيغ خطاباً يضيء على التجريد من الملكية التي تقوم بها الطبقة الرأسمالية المالية – الطريقة التي يستخدمون فيها الدين كسلاح لتضـخيم قيمة أصولهم، مدركين طوال الوقت بأنّهم كانوا يضخمون فقاعة ستنفجر وتدمر الاقتصاد. وعلى العمّال أن يتبنوا أجندة سياسات تتحدى هيمنة رأس المال المالي وتلغي امتيازاتهم وتضع سطوة الاستثمارات تحت السيطرة الديمقراطية.

لم يعد الأمر كافياً السير حول حواف المستوطنة النيوليبرالية لتبدو وكأنّها «ديمقراطية اشتراكية». إنّ الضرورات الملحة التي فرضها علينا تغيّر المناخ وصعود اليمين المتطرف وشبح حدوث أزمة مالية أخرى، جميعها تتطلب من اليسار التعبير عن جدول أعمال اقتصادي جديد تماماً. وفي محاولة لإنقاذ الرأسمالية من نفسها، فليس أمامنا إلّا التحرّك لتخطي الرأسمالية بأكملها.