«العولمات الثلاث»5| العولمة الثالثة النيوليبرالية «أ»
توماس بالي توماس بالي

«العولمات الثلاث»5| العولمة الثالثة النيوليبرالية «أ»

  • صياغة نظرية للعولمات الثلاث: ثلاث نظريات لثلاث عولمات:

تشكّل كلّ حقبة عولمة ظاهرة متمايزة منفصلة لها سماتها التجريبية المختلفة بعضها عن بعض، ولهذا تستدعي كلّ واحدة منها صياغة نظرية مختلفة. إنّ لإدراك هذا الأمر آثار جذرية.

تعريب وإعداد: عروة درويش

إنّ التجارة مشمولة في النظريات الثلاث. لكن حيث الاقتصاد التجاري قادر على شرح أوّل نمطي عولمة، يتم شرح العولمة الثالثة عبر الاستراتيجية الصناعية للشركات في الاقتصادات المتقدمة. كانت التجارة التقليدية ذات الاتجاهين في جوهر أوّل نمطي عولمة، لكنّ التجارة كانت عاملاً ثانوياً في العولمة الثالثة بمعنى أنّها كانت أداة لغرض استراتيجي آخر. نرى في العولمة الثالثة بأنّ الزيادة في التجارة والتغيّر في التكوين الجغرافي للتجارة قد تمّ دفع كليهما من قبل إعادة التنظيم الصناعي الاستراتيجي، وذلك بدلاً عن نظرية الإتجار ذات النفع المتبادل التقليدية.

  • اقتصاد البارجة: صياغة نظرية للعولمة الثالثة النيوليبرالية «أ»

إنّ المحفز الرئيس للعولمة الثالثة لم يكن التجارة، ولو أنّها جزء حتمي منها، بل هو هدف المنظمات الصناعية إلى زيادة ربحيتها وحصتها من الأرباح.

يمكن وصف العولمة النيوليبرالية بأنّها «اقتصاد البارجة Barge economics». والسبب الذي يدفع لتسميتها هكذا هي ملاحظة جاك ويلش، الرئيس التنفيذي السابق لشركة جنرال إليكتريك، بأنّه بالإمكان بشكل نموذجي «وضع كلّ مصنع تملكه على بارجة». تخيّل ويلش المصانع التي تطفو على زوارق بين البلدان من أجل استغلال أقلّ التكاليف الممكنة، سواء أتمّ تحقيق ذلك بسبب الفرق في أسعار الصرف أو بسبب الضرائب المخفضة أو الدعم أو غياب التشريعات أو العمالة زهيدة الثمن الممكن استغلالها.

تجعل العولمة النيوليبرالية من «اقتصاد البارجة» حقيقة. فقد تمّ بناء «البارجة» على تغيير تكنولوجي وتنظيمي معقد، بالاعتماد على بنية سياسية وقانونية تدعم الإنتاج الخارجي والاستعانة بمصادر أجنبية. بقيت التجارة ذات موقع رئيسي لأنّ البضائع يجب أن تعبر الحدود، وبالتالي كان هناك حاجة لاتفاقيات تجارية. لكنّ اقتصاد البارجة مختلف جوهرياً عن اقتصاد التجارة التقليدي. فالأخير يتمحور حول تبادل البضائع والخدمات عبر الحدود المتعلق بالإنتاج الثابت في مكانه. أمّا اقتصاد البارجة فيتمحور حول خلق شبكة إنتاج دولية متحركة مرنة، تتشكل على مبدأ المراجحة الدولية للتكاليف «Arbitrage = شراء بضائع في سوق وبيعها في أخرى لتحقيق هامش ربح أعلى».

يمكن إيجاد جذور اقتصاد البارجة داخل اقتصاد التنظيم الصناعي وتطوّر الشركات متعددة الجنسيات، أو إذا ما تحدثنا بشكل أكثر عموماً: «الشركة المتناثرة dispersed firm». وقصّة تطوّر الشركة المتناثرة هي قصّة تاريخية طويلة للسرد.

تألفت شركة التصنيع الفيكتورية الكلاسيكية من مصنع في الطابق الأرضي ومن قسم إدارة ومحاسبة يطلّان على طابق المصنع. ومع نمو حجم الشركات بنمو حجم اقتصاداتها الوطنية، فقد توسعت عملياتها الأساسية بشكل تدريجي وتناثرت داخل حدود الاقتصاد الوطني. وتمثّل الشركة متعددة الجنسيات عملية التناثر هذه إلى الفضاء الدولي، وقد تسارعت هذه العملية في العقدين التاليين للحرب العالمية الثانية. لكنّ السمة الرئيسة لشركات ما بعد الحرب العالمية الثانية هي أنّ إنتاجها كان بشكل رئيسي لصالح الأسواق المحلية: فشركة فورد الأوربية وجنرال موتورز الأوربية كانتا كلتاهما تنتجان لصالح الأسواق الأوربية وليس لصالح سوق الولايات المتحدة.

غيّرت العولمة النيوليبرالية هذا النمط بحيث أنّ كانت شركات الإنتاج الفرعية الأجنبية (وخاصة الشركات الأمريكية) تستهدف بشكل متزايد التصدير العكسي نحو بلاد شركاتها الأم. وأفضل الأمثلة على هذا التغيّر هي المكسيك والصين حيث أصبحتا القاعدة لمنصات الشركات متعددة الجنسيات للإنتاج التصديري. كان الهدف من وراء هذا التغيير في التنظيم الصناعي هو زيادة الربحية والحصول على حصّة أعلى من الأرباح والهرب من العمالة المنظمة التي تركزت قوتها في المجال الصناعي.

تختلف المحفزات بشكل كلي عن نظرية التجارة التقليدية المبنية على مفهوم أنّ منتجي بلاد ما يتطلعون لتوسيع إنتاجهم المحلي عبر التصدير. يعكس اقتصاد البارجة ذلك النمط ويحمل منتجي البلاد على تقليص إنتاجهم المحلي، وعلى تحويل منشآت الإنتاج إلى الخارج، ومن ثمّ استيراد البضائع المنتجة في الخارج.

من الناحية التحليلية، قد تعكس اقتصادات البارجة جميع الادعاءات النموذجية للرفاه فيما يتعلق بمنافع التجارة. تقارب نظرية التجارة التقليدية التجارة عبر منظور تبادل النفع. يقوم افتراض التثبيت على أنّ التجارة تتم فقط إن كان هناك مكاسب متبادلة، وهو الأمر الذي يحثّ النظرية التقليدية على إيجاد مثل هذه المكاسب وتغييب الاعتلالات. على النقيض من ذلك فإنّ اقتصادات البارجة تحفزها الصراعات على التوزيع. فبما أنّ الاستثمارات والنفقات المتكبدة في الصراعات على التوزيع مكلفة للاقتصاد، فالصراع على التوزيع يقوّض ادعاءات اقتصاد السوق بخصوص مبدأ باريتو الأمثل «Pareto optimal». بالنتيجة فإنّ اقتصادات البارجة تعني عدم وجود مكاسب كليّة من التجارة وأنّ المجتمع يكون أسوأ حالاً بسببها. فالأرباح تزداد بحيث تزداد مكاسب رأس المال ولكنّ العمالة تخسر، لكنّ خسارات العمّال تفوق بكثير مكاسب رأس المال.

تنظر اقتصادات البارجة للعولمة النيوليبرالية بوصفها شكل من الابتكار التكنولوجي المخطط الهادف إلى إعادة تنظيم الإنتاج العالمي. التنظيم هو شكل من التكنولوجيا واقتصادات البارجة تعزز إعادة التنظيم في سبيل منفعة رأس المال. يمكن توضيح هذه الأفكار في نموذج توازن جزئي بسيط مع خيار التكنولوجيا ذاتية النمو الذي وضعه بالي في 1998. يظهر هذا النموذج كيف تؤثر التكنولوجيا توزيع الدخل، ويظهر أيضاً كيف يمكن لخيار التكنولوجيا أن يفرض تكاليف إضافية غير محسوبة عبر عوامل خارجية. هذه سمة أخرى للعولمة النيوليبرالية، وذلك رغم عدم كونها محور هذه الدراسة.

يظهر النموذج في الشكل رقم 11. في البداية تستخدم الشركات تكنولوجيا الإنتاج 1 والتي لديها منتج عمالة هامشي ثابت «a1». وفقاً لهذه التكنولوجيا يحصل رأس المال على حصّة «s1» ويحصل العمّال على حصّة «1-s1». علاوة على ذلك، تنتج التكنولوجيا تلوثاً ضاراً كمنتج ثانوي، مع كون معامل التلوث-المخرجات هو «b1». إنّ مستوى الطلب «D» هو معطى خارجي. تلبي الشركات هذا الطلب، بتوظيف «N1» عمّال، وبإنتاج «P1» وحدات تلوث، وبكسب أرباح «π1».

الشكل رقم 11:

الآن، لنفترض بأنّ بإمكان الشركات أن تعيد ترحيل الإنتاج إلى الخارج وأن تنتج باستعمال تكنولوجيا الإنتاج «2». للتكنولوجيا الجديدة منتج عمالة هامشي «a2»، ومعامل تلوث-مُخرج «b2»، ويحصل رأس المال «s2». التكنولوجيا الجديدة أقلّ إنتاجية بشكل شديد (a2 < a1) وأكثر تلويثاً بشكل كبير (b2 > b1). رغم ذلك فإنّ لدى الشركات حافز لتبنيها لأنّها أكثر ربحية على جميع مستويات الإنتاج. وبالنتيجة سوف تقوم الشركات بإغلاق الإنتاج في موطنها وتبدأ بالإنتاج في الخارج.

إن لم يتغيّر الطلب فستواصل الشركات إنتاج «D» وسوف تزوّد الأسواق المحلية بالواردات. ستوظف «*N2» عمّال وتنتج «P2*» وحدات تلوث وتكسب أرباح «π2*». على مستوى التوازن الجزئي، فإنّ المُخرجات العالمية غير متغيرة. تنخفض وتسقط مُخرجات البلد الأم والعمالة فيها، وتزداد مُخرجات وعمالة البلد الأجنبي، وتزداد العمالة العالمية ويزداد التلوث العالمي، وتزداد حصّة الأرباح العالمية، وتنقص حصّة العمالة العالمية. يخسر العمّال في البلد الأم للشركة ويتقلص اقتصاد البلد الأم.

وعلى مستوى التوازن العام، تعتمد الآثار على ما يحدث للطلب وما يحدث للعمّال المزاحين. إن انخفض الطلب تتقلص المُخرجات العالمية. إن تمّت إعادة توظيف العمّال المسرحين من البلدان الأصلية فستتعافى مُخرجات البلاد بشكل أو بآخر، بحيث يعتمد مدى الانتعاش على إنتاجيتهم في وظائفهم الجديدة. إن غيّر العمّال الأجانب الموظفين حديثاً أعمالهم فسيتم تخفيف مُخرجات البلاد الأجنبية، ويعتمد مدى التخفيف على إنتاجيتهم في وظائفهم السابقة.

 

يتبع