فشل السيناتور ماكين في ابتزاز العسكريين للموافقة على التدخل في سورية

فشل السيناتور ماكين في ابتزاز العسكريين للموافقة على التدخل في سورية

قطاعات واسعة من الشعب الاميركي منهكة من الحروب وتداعياتها على داخل البلاد، كما تشير استطلاعات الرأي تباعا، باستثناء بعض صقور الحرب والداعمين للكيان “الاسرائيلي” في الكونغرس، يتصدرهم السيناتور الجمهوري جون ماكين، دائم النعيق لضرورة تدخل الولايات المتحدة عسكريا في سورية.

جاء في الانباء قبل نحو اسبوعين ان لجنتي الاستخبارات في مجلس الشيوخ ومجلس النواب اتخذتا قرارهما بتجميد الاموال التي خصصها الرئيس اوباما لدعم المعارضة السورية المسلحة، لاعتبارات سياسية داخلية، سيما وان الانتخابات النصفية ستجرى الخريف القادم. بالنظر الى ثبات نسبة المعارضين للتدخل العسكري فالمؤشرات لا تطمئن على تدفق المساعدات الاميركية في المدى القريب.
تغير المشهد السياسي مطلع الاسبوع الماضي عقب اعلان رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب، الجمهوري مايك روجرز، بدعم مشروط للرئيس اوباما قائلا “نحن على اعتقاد ويمكننا القول انه باستطاعة الادارة المضي قدما .. ينبغي ملاحظة عنصر على قدر من الاهمية بانه لا يزال (بعض الاعضاء متمسكا) بتحفظات شديدة.” واضاف ” توصلنا الى اجماع يخولنا المضي قدما بالتساوق مع مخططات ونوايا الادارة في سورية بما يتناغم مع تحفظات اللجنة.”
مسألة التحفظات عينها تتواجد داخل لجنة مجلس الشيوخ، لكنها محصورة بشخص السيناتور جون ماكين، الطاعن في السن ولا يعد من زعماء الحزب الجمهوري في مجلس الشيوخ، بل تسري توقعات بانسحابه من مجلس الشيوخ عام 2016، مما يضعه في مصاف “البطة العرجاء،” اي سلطة بدون تأثير. كما ان سلسلة مواقفه المتشددة تلقى معارضة لا بأس بها من قيادات الحزب الجمهوري في ولايته، اريزونا، ومساعيه للترشح مرة اخرى عن الحزب، لو اراد، تصطدم بمعوقات تضع حظوظه في الفوز محل شكوك.
صب ماكين جام غضبه على شخصية عسكرية مرموقة الاسبوع الماضي، حينما اصطدم بحدة مع رئيس هيئة قيادة قوات الاركان المشتركة، مارتن ديمبسي، اثناء شهادة الاخير امام لجنة القوات المسلحة لتجديد ولايته مرة اخرى. ديمبسي رفض الاجابة على اصرار ماكين استدراجه للقول ان تقديم استشارته للرئيس في مسألة التدخل العسكري في سورية هي قرار سياسي، وليس عسكريا. يذكر ان العرف السائد في الولايات المتحدة هو احجام القيادات العسكرية عن البوح بوجهات نظر لها تداعيات على صناع القرار السياسي. ماكين لم يعجب باجابة ديمبسي وطلب منه تقديم خطة تتضمن مروحة من الخيارات المتوفرة للولايات المتحدة فيما يخص سورية
ذهب ماكين بعيدا لاستفزاز ديمبسي لاحقا بان اعرب عن نيته “تجميد” قرار التجديد لولاية ثانية لمنصب رئيس قيادة الاركان المشتركة، مما حدا بديمبسي وفريقه المساعد الى العمل سريعا على صياغة رسالة موجهة للجنة المذكورة تشمل عدة خيارات، والتي لم تلقى ترحيبا لدى ماكين.
الخوض في كنه قدرة عضو بمجلس الشيوخ التأثير بمفرده على القرار السياسي يقودنا الى نصوص الدستور الاميركي الذي يخوّل الرئيس ترشيح كافة القيادات العسكرية. اما صلاحية مجلس الشيوخ فهي لا تتعدى “تقديم المشورة والموافقة،” مما يترجم الى صلاحية المجلس (ولجانه المختصة) برفض الترشيحات المقدمة، باقلية اصوات لا تتعدى 40 من مجموع الاعضاء المائة، اي اكثر من صوت منفرد. وينبغي رؤية قدرة ماكين على تحدي الرئيس من هذه الزاوية التي دشنها الاعضاء كعرف يمارس منذ تأسيس الدولة.
ايضا، تركيبة الدولة الفدرالية تستند الى عضوية خمسون (50) ولاية ذات سيادة ورد حقها في ممارسة حقوقها الخاصة في نص الدستور. وعليه، فان عضوية مجلس النواب تستند الى الكثافة السكانية لمنطقة محددة، اما في مجلس الشيوخ فالولاية يجري تمثيلها بعضوين حصرا دون مراعاة الكثافة السكانية الاجمالية لكل ولاية على حدة. الامر الذي ادى الى استنباط آلية تفيد بأن موافقة سيناتور في مجلس الشيوخ، على أمر ما، لن تدوس على سيادة او حقوق اي من الولايات المكونة.
وفي التفاصيل، نصت مادتي 2 و 3 للقاعدة 7 من القواعد المعتمدة لدى الكونغرس على “لن يجري اعتماد اي اقتراح يقدم للنظر به لأي من مشاريع القرار .. الا ان استطاع الحصول على موافقة بالاجماع.” في الشق العملي، تترجم هذه الفقرة بحق اي من اعضاء مجلس الشيوخ لفت انتباه زعامة حزبه/ا لنية معارضته لاقتراح مقدم.
الغرض الاساسي وراء نصوص تلك المواد حماية حق الاستشارة للممثل (السيناتور) لمشروع قرار قد يهم ولايته، او لتلك التي قد يحن اليها. منحه صلاحية التعطيل توفر له فرصة لدراسة واعادة النظر بالمشروع وتداعياته على ولايته المعنية قبل اتاحة الفرصة للنقاش ومن ثم التصويت. جرى استخدام الاجراء مرارا من قبل الممثل لتعطيل الموافقة على ترشيح قاض يشاركة الانتماء الى ذات الولاية او لولاية اخرى لممارسة مهامه.
تضاعفت نسبة استخدام صلاحية التعطيل خلال نصف قرن من الزمن، ويجوز التغلب عليها بمبادرة تحظى بدعم 60 عضوا في مجلس الشيوخ. ويتردد عدد لا بأس به من الممثلين استخدام حقهم المشار اليه خشية سقوطه بعد حيازته النسبة المطلوبة ولاعتبارات شخصية للحفاظ على حقهم استخدامه في المستقبل.
في الحالة التي نحن بصددها، تهديد جون ماكين، يبدو ان الرئيس اوباما ومستشاره العسكري ديمبسي رضخا للمطلب تفاديا لمواجهة نتيجة تصويت محرجة هم في غنى عنها. ماكين، من جانبه، اعرب عن عدم ارتياحه لما جاء في مذكرة ديمبسي كونها تسترسل في آفات التدخل العسكري الاميركي في سورية. اذ حذر ديمبسي من توجهات مفاضلة الخيار العسكري في سورية الذي سيكون ثمنه تقويض الجاهزية العسكرية في اماكن اخرى من العالم. وقال ديمبسي في مذكرته ان التدخل العسكري “امر بالغ الخطورة لناحية خسارتنا للجاهزية نتيجة تخفيضات الميزانية ومستقبل مالي غير محدد المعالم.”
واوضح ديمبسي في شهادته امام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ ان السعي لانشاء منطقة حظر للطيران فوق الاراضي السورية سيكلف البنتاغون 500 مليون الى مليار دولار شهريا، والانكى انها قد لا تكفي لاخماد جذوة الصراع نظرا لاعتماد الجيش العربي السوري على اسلحة المدفعية والمدرعات والصواريخ بشكل اساسي وليس على سلاح الجو، في معظم هجماته. واردف ان هكذا خطوة ينطوي عليها المخاطرة بوقوع طيارين اميركيين في ايدي السوريين ان استطاعوا اسقاط طائرات اميركية باستخدام نظم دفاعاتهم الجوية. “فالمخاطر تشمل خسارة طائرات اميركية مقاتلة، مما يحتم علينا تخصيص قوات تدخل هناك لاستعادة (ممتلكاتنا) .. وقد تفشل (منطقة الحظر) في تخفيض منسوب العنف او التأثير في زخم الصراع نظرا لأن النظام يعتمد بنسبة عالية على اسلحة نيران اضية – المورتر، والمدفعية والصواريخ.
انشاء مناطق حظر للطيران على اراضي تركيا والاردن لتدريب المتمردين السورين كلفتها باهظة ايضا ومحفوفة بالمخاطر. اذ يتطلب الأمر بضعة آلاف من قوات الجيش الاميركي، وقد تصل تكلفته الى مليار دولار شهريا. وقال “المخاطر الكامنة شبيهة بتلك عند انشاء منطقة حظر جوي يفاقمها عامل استخدام قوات النظام نيران مضادات ارضية تطلق على تلك المناطق، وتسبب مصرع اعداد اضافية من اللاجئين نظرا لاكتظاظ تموقعهم .. مناطق الحظر قد تصبح مرتعا وقواعد عمليات للمتطرفين.”
تنبأ مرصد مراكز الابحاث قبل بضعة أشهر بالخيارات المحدودة المتاحة للولايات المتحدة فيما يتعلق بالاسلحة الكيميائية المنسوب اقتنائها لسورية. فضلا عن تكلفتها العالية التي تتراوح نحو مليار دولار شهريا، باستطاعة تلك الجهود القضاء “على بعض وليس كامل” الترسانة السورية من الاسلحة. تطبيق ذلك “يتطلب دخول الآلاف من افراد القوات الخاصة يعززها قوات اخرى من المشاة للقيام بالهجوم وتأمين المواقع الحساسة.”
الخيارات الاميركية الاخرى تفتقد للجاذبية والمفاضلة لتبنيها، في ظل توضيح مارتن ديمبسي بان جهود تدريب وتقديم المساعدة والمشورة لقوى المعارضة تقتضي تسخير بضع مئات الى بضعة آلاف من القوات الاميركية قد تصل كلفتها نحو 500 مليون دولار سنويا. واوضح ان الخيار يقتضي “انشاء مناطق آمنة  خارج الاراضي السورية” ومناطق اسناد في الدول المجاورة. “مع مضي الوقت، سيسهم الخيار في تحسين قدرات قوى المعارضة.” اما في الجانب السلبي الذي سينطوي على “تعزيز القدرات هو اتاحة الفرصة للمتطرفين امتلاك قدرات اضافية، والقيام بشن هجمات عبر الحدود، وهجمات في الداخل او الارتباط غير المتعمد بجرائم حرب نظرا للمصاعب التي تواجهها جهود التمييز بين المجموعات المسلحة المقبولة للولايات المتحدة.”
اما المكاسب العائدة لشن غارات جوية محدودة اقتداء بالمثال الليبي ستثبت تدني فعاليتها بنسبة اقل مما يتوقعه ماكين. قد تستخدم تلك الغارات لشل الحركة او تدمير مرابض الدفاعات الجوية السورية والمنشآت العسكرية، وستصل كلفتها الى بضعة مليارات من الدولارات. وقال ديمبسي “متطلبات القوة المقاتلة تتضمن عدة مئات من الطائرات المقاتلة، والسفن والغواصات وقطعات اخرى مساعدة .. الامر ينطوي على مخاطرة نظرا لامكانية صمود النظام امام غارات محدودة عبر نشر ترسانته على رقعة واسعة. كما ينبغي الاخذ بالحسبان الهجمات الانتقامية، واحتمال تأثير الاضرار الثانوية على معنويات المدنيين والاجانب الموجودين داخل البلاد.”
ينحدر جون ماكين من عائلة عريقة ادت خدمتها العسكرية وشاركت في كل الحروب التي شنتها وخبرتها الولايات المتحدة منذ عام 1776 وحتى الزمن الراهن، وخريج الاكاديمية البحرية في انابوليس (ولاية ميريلاند)، يبدو انه تغاضى عن مبدأ اساسي في علم الحرب القائل بأن المرء يذهب للمعركة سعيا للانتصار، وهو ما كان سيلقنه اياه والده الاميرال جون ماكين قائد القوات البحرية الاميركية ابان الحرب على فييتنام. من نافل القول ان الخطط الحربية في العصر الحديث تختلف جذريا عما خبره جده الاميرال جون ماكين الاكبر ابان الحرب العالمية الثانية مستندا الى توظيف قوات مشاة البحرية تحت امرته في تحطيم القوات العسكرية اليابانية في معركتي اوكيناوا وخليج ليتي. يبقى ان مخططات السيناتور جون ماكين للتدخل لا تضمن عمليا احتمال هزيمة الاسد او التوصل الى نصر يمكن ان يحققه ما يتم وصفهم بالجماعات المعتدلة في صفوف المعارضة السورية.
التهديد الصادر عن ماكين، باعاقة المصادقة على مارتن ديمبسي ومطالبته معلومات اضافية مفصلة حول الخيارات المتاحة لاميركا، اتى بنتائج مخيبة للخطط التي رسمها. اذ اوضحت البنتاغون موقفها من ان التدخل العسكري في سورية، المفضل الوحيد بالنسبة لماكين، بالغ الكلفة ويقتضي انخراط قوات برية اميركية. لو اخذنا باحتمال عدم توفر النية لدى ماكين الترشح مجددا ومواجهة جمهور مستاء في عموم ولايته، فان الممثلين الآخرين سيلجأون لتوخي الحذر من التصريحات المتهورة المماثلة.

المصدر: مركز الدراسات الأميركية والعربية