الاقتصاد السوري من وصفات الأكاديميا إلى الحماية الشعبية

الاقتصاد السوري من وصفات الأكاديميا إلى الحماية الشعبية

ترددت كثيراً عن الكتابة في الاقتصاد السوري ليس لبعد المسافة وحسب، وإنما لأن اللحظة حساسة تدفع للزلل أكثر منها للصواب. ولأن ما يُكتب الآن عن اقتصاد سوريا ، كان يجب أن يُكتب على الأقل قبل ثلاثة عشر عاماً أو على مدارها أو في تقييمها قبيل الأزمة الحالية. وهي الزمن الذي كنت أنتقد فيه النظام السوري من مدخل وجوب الإصلاح وصمود سوريا وأهمية دورها بما هي إحدى الحواضر العربية الثلاث، إلى جانب بغداد والقاهرة، اللواتي يرتهن بهن المشروع القومي العربي وتحرير فلسطين. ومهمة النقد هذه كان يجب ان يقوم بها من فتحت لهم سوريا السلطة   قلبها وذراعيها فطعنوها، أما سوريا البلد فهي دوماً لكل عربي.

ولكن ما أغراني أو أغواني بالكتابة هو ما سمعته على الفضائية السورية مؤخراً من أطروحات ل د. حيان سليمان و د. شادي أحمد و د. قدري جميل الوزير من المعارضة، بمعنى أنني أحاول تكميل ما قالوه، من موقع بعيد عن سوريا، وربما قول ما تحرَّجوا عن قول بعضه، وهم يعرفونه طبعاً،  لظروف تخص سوريا ، لذا لا يرغبون الخوض فيها.

صحيح أن التعامل مع الوضع الاقتصادي السوري قد يتطلب قرارا يوما بيوم لأن البلد في مواجهة حرب عدوانية لا تحملها دولة عظمى، وبالتالي تنشغل السلطة في إدارة أزمة وليس في علاج عميق لها. ولكن مع ذلك، فلا بد من قراءة الوضع من مدخل الاقتصاد السياسي أولاً، وليس على ارضية فنية بحتة، بما يعنيه الاقتصاد السياسي من قراءة مادية تاريخية للواقع وهو ما يحتم التعاطي الطبقي مع الأزمة وتحديد من هم اصدقاء الشعب وكيف يجب أن يحارب الوطنيين من قومين واشتراكيين وشيوعيين. وسأحاول في هذه المقالة التمسك بهذا المدخل في التحليل والابتعاد ما أمكن عن المستوى الفني البحت في قراءة الأزمة.

 

لعل الأوضح في قراءة الاقتصاد السوري هو ما قبل الأزمة من سياسات والتي أوجدت فرشاً موضوعياً للأزمة نفسها بمعنى التفارقات الطبقية التي انتهت إلى تناقضات طبقية، وكيف لا في ظل اقتصاد السوق الاجتماعي  كإسم مخفف للسياسات اللبرالية الجديدة ومناقض للاقتصاد السياسي بمنظوره المادي. وهي سياسات يبدو مما كتبه كثير من السوريين كانت تماشياً مع إجماع واشنطن، وصدمة من تفكك أنظمة الاشتراكية المحققة. وكغيرها كانت سوريا قد أُخذت بمقولة نهاية التاريخ، فما أكثر الاقتصاديين الماركسيين الذين رددوا على مسامعنا مقولة شعار تينا There  is no Alternative TINA. فتأرجحوا مثل بندول الساعة يمنة ويسرة. ولا شك انهم يعانون اليوم صدمة وجود بديل بل بدائل للراسمالية المتوحشة بعد أن وصلت حقبة الراسمالية المعولمة حدها، وقد لا تكون تجربة امريكا اللاتينية هي الوحيدة.
إلى جانب الحرب بالسلاح التي تثشن ضد سوريا وإلى جانب الحصار هناك حربا طبقية داخل سوريا متمثلة في:
 ــ صراع  شرائحي داخل أجنحة النظام وتحالفاته متعلق بالتخلص أو الإبقاء على سياسة السوق الاجتماعي رغم الحرب
ــ وإذا كان هذا مظهرها فإن تجليها ونتائجها هو على الطبقات الشعبية.
وهذا يعزز وجوب القراءة والتحليل بالاقتصاد السياسي.

تكاثرت في بدايات الأزمة في سوريا ومجرياتها كعدوان، تهويمات أحفاد الشيخ القتيل –تروتسكي- الذين يزعمون أن الحراك في سوريا بدأ كصراع طبقي خالطين بين الوجود الموضوعي للطبقات والتناقضات والتي لم تنفجر طبقياً، وبين حلقة من المشروع الإمبريالي لتصفية سوريا. وقد يكون ما ظهر من حقائق ومن ضمنها تصريحات وزير خارجية فرنسا السابق رولان دوما، ل كريستيان ليهمان: (Christof Lehmann (nsnbc) ) بأن وزير الخارجية الفرنسي السابق رولان دوما أن الحرب على سوريا جرى التخطيط لها قبل عامين من بدء “الربيع العربي” وذلك في مقالبة تلفزيونية وأن “رسميين بريطانيين كبارا” قد اعترفوا أنهم كانوا يخططون لحرب على سوريا وبأنهم عرضوا عليه المشاركة في ذلك”. ليس هنا بالطبع موقع التفصيل، ولكن أهمية هذا الحديث هو فقط لتأكيد أن ما يحصل من حرب على سوريا ليس في الأساس مسألة داخلية، ولكن هذا أيضا يجب ان لا يسمح لنا بغض الطرف عن الإشكالات الداخلية خاصة حين الحديث عن الاقتصاد لأنه يمس جميع الشعب.

ما يساعد هذا التشخيص علاوة على أن الطبقات الشعبية في سوريا اليوم  في غالبيتها مع النظام رغم تخالف اجنحته، يقابل ذلك بعضا من هذه الطبقات  مع البرجوازية السورية المهاجرة وقوى الدين السياسي والإمبريالية والصهيونية. ولست ادري إن كان بوسع ماركس أن يسمي حاضنة الإرهاب من الطبقات الشعبية، حاضنة وعي وصراع طبقي. أما قراءة ما تقوم به هذه المجموعات من قتل على الشاشات فيؤكد أنها في المراحل البدائية من الوجود الإنساني.

لافت بالطبع أن نقول بوجود صراع طبقي في البلد في ظل الحرب على البلد. واللافت اكثر أنه صراع في مراكز اتخاذ القرار ورسم السياسات وتنفيذها أي ليس ما يدور بالسلاح هو الصراع الطبقي، وربما كان لهذا التجاذب في شرائح السلطة دوره في عدم حسم النظام باكراً موقفه من :
ــ سياسات السوق الاجتماعي وبالتالي ضرورة التحول إلى اقتصاد حرب تحتكر الدولة بهذه السياسات مفاصل الاقتصاد الأساسية
ــ وموقفه من المعارضة المسلحة بالأجنبي( من البندقية وحتى الفكر الوهابي والمال النفطي).
ولكي أكون واضحاً، فإن قطاعا واسعا من الفاسدين قد تعيشوا على استمرار السياسة الاقتصادية نفسها فهربوا الأموال وتاجروا بتسريب اسلحة للمسلحين، وواصلوا استيراد ما ينافس الإنتاج المحلي وخزنوا السلع والعملات الأجنبية وضاربوا بها عبر شراء العملات الصعبة بدعم من أنظمة الخليج لكي يقتلوا الليرة السورية…الخ وهذا وقوف بجانب العدوان إذا ما أعطيناه اسمه الحقيقي.

 
أي اقتصاد المطلوب

 في حالة العدوان وهي حالة أخطر من حالة الحرب، فالحرب يمكن أن تقوم بها دولة ما بقرارها الذاتي، دفاعا أو عدوانا وتكون بالطبع قد جهزت نفسها  لاقتصاد حرب، أما سوريا فهي تحارب/تصد  عدواناً، تقوم بحرب دفاعية  وهذا اكثر تعقيدا.

والسؤال الكبير هو: هل يُعالج أو يُحمى الاقتصاد السوري اليوم بالوصفات الاقتصادية لاقتصاديي البرجوازية، او التقليديين من معلمي الاقتصاد في الجامعات سواء المحافظين منهم او الذين يقولون حماسة “قومية” وليس اقتصادا سياسياً، اي قراءة الاقتصاد عبر الطبقات الاجتماعية. قد نقول بأن السياسات التقليدية لا تنفع واللحظة لا تحتمل التجربة والخطأ؟

 فقدان دور الدولة وحتمية استعادته:

 يرد معظم الاقتصاديون التقدميون واليساريين السوريين الأزمة الاقتصادية الحالية إلى الثلاثة عشر عاماً الأخيرة ويؤكدون بأن هذه السياسة هي التي خلقت الحاضنة الحالية للمسلحين الذين لا يقاتلون بحرب غوار بل يقوموا اقتصاديا بتدمير مواقع الإنتاج بشكل ممنهج تخطط له جبهة من الدول تبدأ من المركز وتنتهي بالمحيط النفطي الريعي الذي يغدق الأموال والسلاح ويجند مسلحين  من مطلق مكان في دفاع” عن وجوده المباشر من سوريا غدٍ إذا انتصرت. ففي حرب الغوار يقوم الغواريون برعاية الفلاحين وكسبهم والاهتمام بالإنتاج والمشاركة في العمل وذلك ليس فقط لأنهم بحاجة للفلاحين ودعمهم والتجند معهم، بل كذلك لأنهم غواريون فقراء يحتاجون لكل رغيف وكل فلس وكل طلقة. ولكن الحالة السورية مختلفة تماما، فالمسلحين مشبععين بالعملات الصعبة ولديهم وفرة هائلة من الأسلحة علاوة على فرادة أخرى هي تدفق مسلحين من عشرات الدول والأمم. لذا، يقوم المسلحين بتخريب الافتصاد إما ليأسهم من النصر أو لأن  مموليهم يعدونهم بتعويض كل شيء!

وفي الحقيقة، إذا لم يفهم المواطن  السوري العادي هذه المعادلة، فإن أداء الحكومة لدورها في غاية الصعوبة، ذلك لأن سوريا محتلة من نصف العالم على الأقل، بينما النصف الآخر هو صديق ومساعد اقتصاديا ودبلوماسيا بشكل كبير، ولكن حضوره الاقتصادي والتمويلي ليس بنفس القدر الذي نراه من الأعداء وليس من المفترض أن يكون بنفس القدر على أية حال.

ولعل الحجم الحرج لمعضلة تفهم المواطن لهذا الوضع ناجمة في الأساس عن سياسات السوق الاجتماعي التي افقدت كثيرين ثقتهم الطبقية بالدولة/السلطة الحاكمة نفسها مما جعل ثقتهم بها اليوم بحاجة إلى شغل كبير وكثير. وربما يمكننا القول بأن التربيةالقومية للمواطن في الدولة السورية منذ الاستقلال، وخاصة في فترة البعث قد لعبت دوراً في تمكين المواطن من الفصل بين وطنيته/قوميته العربية وغضبه من السياسات الاقتصادية ومن ثم الاجتماعية للنظام. وهو الأمر الذي لم يتقيد به من شكلوا حاضنة للإرهاب أو شاركوا فيه بدءا من مثقفي اليسار المرتد على الشيوعية نفسها وصولا إلى فقراء أحزمة المدن والأرياف. وهو الأمر الذي أنتج حرب عصابات فريدة من نوعها، فهي حرب فقراء يدعمهم المركز الرأسمالي المعولم وأنظمة الخليج ما قبل القروسطية، ويقودها كفرة وليس فقط تكفيريين يعملون على إبادة البشر وهدم كل حجر على حجر ويتحالف معهم مختلف أنواع قوى الدين السياسي وفرقا من شيوعيين مرتدين عن أبجديات  حتى اليسار.

ولكن المعضلة لا تتوقف هنا، بل تمتد نحو السؤال التالي: هل حاولت السلطة منذ بدء الأزمة التقاط هذه المسألة  والعودة إلى دورها في قيادة العمل الاقتصادي بدءأ من التجارة الخارجية وتحديداً الاستيراد، وتقوية العملة بالإنتاج باعتماد بردايم التنمية بالحماية الشعبية[1]، وتقوية العملة بهذا الإنتاج وليس فقط بضخ اليورو بين حين وآخر؟ هذا هو السؤال الرئيسي لهذه المقالة .

دور أبوي للدولة على المستهلك وعلى المصرف المركزي كي لا يكون  تاجر عام:
قد يكون تدخل المصرف المركزي مفيدا في حالات محدودة كأن يقوم بشراء العملة المحلية وضخ عملات صعبة في السوق لتهدئة اهتزاز الثقة بالليرة السورية وخاصة لمواجهة تجار السوق السوداء الذين يشترون العملة الصعبة وقد لا يضخونها في الاقتصاد ثانية او يفعلون في ظرف يحققون فيه كسبا هائلاً، وبذا يكونوا الجزء النقودي من الثورة المضادة.
ولكن هذا الإجراء يجب أن يكون استثنائياً، فعلى الدول التي يسود فيها الاستيراد أن تستخدم مخزونها من العملات الصعبة والمعادن الثمينة لشراء عملتها المحلية، لكن هذه الطريقة تؤدي لاستنزاف المخزون على المدى البعيد، ولا يمكن الاستمرار بها طويلاً إذا كانت ضغوط تخفيض العملة ناتجة عن خلل بنيوي طويل المدى يجعل عرض العملة المحلية أكبر من الطلب عليها.فلا بد من اقتران هذه السياسة بسياسات تقلل من الاستيراد حتى لو كانت موجعة لقطاعات او شرائح مجتمعية وهي ليست الأكثرية على اية حال سوى في حالات السلع الضرورية وهذا أمر مطلوب لسوريا.
وهو يعني ان تكون الدولة هي قاطرة الاقتصاد الإنتاجي وليست ممولة الاستهلاك المجتمعي.
ومن هنا فإن احتياطي البنك المركزي في أية دولة من العملة الصعبة والمعادن الثمينة يصبح مؤشراً لمدى قدرة تلك الدولة على الدفاع عن قيمة عملتها المحلية، وهذا وحده كفيل بدفع الناس لطلب العملة المحلية. لكن هذا الدفاع لن يستمر إذا لم يتم اعتماد هجوم استثماري وخاصة في قطاع الصناعات الصغيرة وسيطة التكنولوجيا كثيفة التشغيل والزراعات الموسمية والتي تشغل معامل التعليب والمربيات (التصنيع الزراعي) وهذه من اسس بردايم التنمية بالحماية الشعبية.
وهذا يتطلب قيام الدولة بتوسيع نطاق العمل الإنتاجي الذي بدوره  الدافع إلى استخدام العملة المحلية والتعامل بها.

وفي حالة كهذه اعتقد أن من المناسب للدولة وضع سياستين اقتصاديتين:
ــ سياسة الاقتصاد الرسمي محلياً وفي علاقاتها الدولية (اقتصاد الحرب)،
ــ وبردايم التنمية بالحماية الشعبية أي حرب الشعب وهي النسخة الفلسطينية في الانتفاضة.

 سياسة اقتصاد الحرب:

وهي سياسة تتطلب تدخل الدولة في الاقتصاد حتى لو كانت دولة راسمالية بالمفهوم الكلاسيكي لما يسمى اقتصاد السوق الحرة، علماً بأنه لا وجودأ لمثل هذا السوق ، اي هي إيديولوجيا لأن القاعدة التي تحكم اقتصادات المركز دائما هي الحماية الاقتصادية حتى دون حروب.

ولست اعلم ما هي حدود تدخل الدولة السورية في الاقتصاد في هذه الفترة، وهو أمر يتعلق بما هي السياسات المطبقة، ولكن ما يُلمح من حديث الاقتصاديين المذكورين بأن تدخل الدولة لا يزال ضئيلاً .

وهنا أود الإشارة إلى أن شعار “التوجه شرقا” هو شعار جميل، ولكن العبرة هي في:
ــ حدود تطبيق هذا الشعار
ــ ومدى سهولة ذلك سواء من حيث:
1ــ درجة مرونة السوق السورية
2ــ ودرجة مرونة الأسواق الشرقية
3ــ وطبيعة ما لدى السوق السورية لتقديمه
4ــ وتلاؤم ذلك مع مزاج الأسواق الأخرى.

وإلى جانب هذا كله، فإن التوجه شرقاً يعني في الدرجة الأولى وقف التوجه غرباً، وهذا يعني صدام لا بد منه مع القطاع الخاص الذي ارتبط بالتبادل، وخاصة الاستيراد، مع الأسواق الغربية. فباستثناء السلاح كان تبادل الدول العربية ذات التوجه القومي في اغلبه مع أوروبا الغربية. نتحدث هنا إذن عن صدام لا بد منه مع شريحة الكمبرادور المتجه غرباً، ومدى استعداد الدولة للحلول محلها ومن ثم  التحول شرقا. وهو تحول لن يُجدي إذا لم يكن في هذه الظروف على الأقل تحت رقابة إن لم نقل إدارة الدولة.
يثير الإصرار على هذا التوجه اعتراضات من نمط التحول المفاجىء لأسواق أخرى، وعدم الجاهزية…الخ، ولكن ظروف الحرب تبرر سياسات نوعية وطارئة، وهي سياسات دفاعية في جوهرها ردا على سياسات عدوانية ممثلة في الحصار والتخريب والمقاطعة، وهذا ينقلنا إلى قطاع الاستيراد بمعنى أن الاستيراد هو حالة سلبية في الغالب حيث يُخرج العملة الصعبة بينما التصدير هو حالة إيجابية، تُدخل عملة صعبة وتسمح بشراء  سلعا راسمالية…الخ هذا دون أن ننحاز لتحويل الاقتصاد إلى موجه جدا للتصدير. وإذا كان الأمر كذلك، فلتكن التضحية بالعملةالصعبة مع بلدان غير معادية وجاهزة لاستيراد صادرات سوريا.
ففي الحالة السورية، لا بد من التخطيط الاقتصادي الحربي للاستيراد. أي لا بد ان تتحول التجارة الخارجية لتكون بيد السلطة ضمن دائرة خاصة لا مصلحة خاصة لها في ذلك وهذا يعني عدم تفرد البنك المركزي بمصير العملة الصعبة  ومحاولة حصر دوره أو تقليصه ليكون ضمن السوق المحلي وحينها يمكن تدخله الطارىء لصالح الليرة بمعنى أن  ضبط الاستيراد حكومياً هو الألية الأفضل.
وهذا لا يعني التخطيط المركزي الذي هو سياسة شاملة لا يمكن وضعها وتطبيقها خلال الحرب، ولكن المطلوب سحب هذا القرار من ايدي القطاع الخاص. ولعل مما يدعم هذا التوجه أن العلاقات التجارية في ظروف الحرب تصبح أكثر موثوقية ومصداقية حين تكون بيد الدولة أو أكثر طمأنة للناس على الأقل لأنهم يعرفون على من يوجهون اللوم وإن كنت قد لاحظت أن بعض الإعلاميين استهدفوا الوزير قدري جميل بطريقة فردية بحتة تقترب من الكيدية.

إن احتكار الدولة لهذا القطاع يعني بالضرورة صداما مع شريحة طبقية هي الكمبرادور تحديداً ورغم أن السلطة ليست بحاجة لاستعداء شرائح جديدة ولكن مصلحة الأكثرية والاقتصاد الوطني تستحق ذلك كي  يتم:
ــ الاستيراد من الدول الصديقة
ــ ومن الدول ذات الاقتصادات التي تنتج لسوق مشابه
ــ ويتم تحديد أية سلعة تستورد
ــ ويتم وضع الضرائب التصاعدية على السلع الكمالية أو حتى تقليصها أو وقفها.

سحب قانون غريشام على الإنتاج المحلي:

 لو اتفقنا بأن العملة هي سلعة، بغض النظر عن أدوارها الأخرى، فهذا يسمح لنا بسحب قانون غريشام عليها: “العملة الرديئة تطرد الجيدة من السوق” وهذا يحصل في سوريا كبلد في حرب وحصار ومقاطعة إضافة إلى كونها كأي بلد فيه أزمة اقتصادية تلهث بموجبها صادراته وراء وارداته. أما تحرير التجارة فيسمح بتطبيق هذا القانون على المنتجات السورية المحلية بمعنى أن كثيرا من المنتجات الأجنبية المنافسة للمنتجات المحلية تطرد المحلية من الطلب المحلي وتحل محلها وخاصة لدى الطبقات التي لديها سيولة مالية كافية أو عالية ولديها نزعة استهلاكية مظهرية بشكل خاص. ومضار هذه الحالة ليست فقط على المنتجات المحلية زراعية وصناعية بل كذلك على العملة الصعبة التي لا يتم الاستيراد إلا بها وخاصة في أزمة الحرب هذه وأكثر تخصيصا حين يكون الاستيراد من الاتحاد الأوروبي كعدو تاريخي للأمة العربية سواء كانت دوله فرادى منذ تاريخ طويل، فكيف وهي كتلة وتستهدف سوريا بعداء منهجي؟
كما ينتج عن استمرار تحرير التجارة محاصرة مواقع الإنتاج المحلية  بمعنى عدم تزويدها براسمال استثماري أو إقامة معامل جديدة أو زراعة محاصيل معينة يضربها ما يتم استيراده كبديل لها وخاصة حين يكون  الطلب ضعيف على الإنتاج المحلي.

 إعادة الاعتبار للصناعي بدل رجل الأعمال(الإنتاج لا الريع والخدمات)

مهما قيل عن “وطنية” راس المال، أو تسمية راس المال المحلي ب “الوطني” فإن هذا ليس أكثر من أغلفة لغوية  لمحمول يتطلب الاختبار. كان هناك عاملان دفعا صناعيين في سوريا للتحول إلى رجال أعمال بدل رجال صناعة:
ــ أولهما أن سنوات الانفتاح الاقتصادي عرقلت قطاعات من الإنتاج المحلي نتيجة للمنافسة غير المتكافئة مع منتجات أجنبية ، وعرقلت قيام صناعات محلية بديلة للصناعات التي غمرت منتجاتها السوق المحلي. وهو ما دفع المستهلك المحلي لطرد المنتجات المحلية من السوق طالما تتوفر بدائل لها وهو أمر لا يحول دونه سوى: وعي المستهلك من جهة وتغيير السياسات من جهة ثانية وهما أمران يشترط واحدهما الآخر بشرط الثقة بسياسات الدولة.

ــ كما ان نفس السياسات الحكومية قد أدت إلى تحفيز القطاعات الريعية كالعقارات والمشاريع السياحية المخصصة للنخب والأجانب، والمصارف وشركات التأمين الخاصة. وهو ما ولد شريحة رجال الأعمال غير المنتجين الذين حلوا تدريجيا محل الدولة مما همش القطاع العام.
أدى تحرير التجارة الخارجية إلى التضييق على الصناعة المحلية الأمر الذي دفع بعض الصناعيين لإقفالها مصانعهم ودفع العمال إلى جيش العمل الاحتاطي والذي منه يمكن للثورة المضادة التقاط مقاتلين، وتحول هؤلاء الصناعيون إلى مستوردين طالما أصبح الاستيراد يدرّ من الأرباح ما يفوق ما تدره الصناعة مستفيدين من خبرتهم في الأسواق، وربما شراء مواد خام من الخارج إضافة إلى الماكينات، وكون هذا القطاع محمي من الدولة وهو أقل خطورة فتحول صاحب المصنع وعماله إلى غير منتتجين بل متبرمين من الوضع الاقتصادي الذي يُلقي باللائمة على السلطة التي من المفترض أن تجد لهؤلاء مواقع في القطاع العام. نلاحظ أن السلطة ملومة في كافة الأحوال مما يُلح بأن تأخذ دورها المباشر في الاقتصاد. وهذا لا يتطلب قرارات اقتصادية فنية بل قرارات سياسية اجتماعية اقتصادية تعيد الدولة مجدداً إلى العملية الاقتصادية الإنتاجية والتشغيلية. فالمسألة ليست تقنية بل قرار سياسي ينحاز من الأقلية إلى الأكثرية الطبقية الاجتماعية عبورا إلى إعادة هيكلة للاقتصاد بما يعطي الأولوية لمواقع الإنتاج.

العملة:

من الطبيعي ان يستمر التنافس بين العملة المحلية والأجنبية/الصعبة في اي اقتصاد وخاصة في فترات الحروب. وهو في جوهره صراع في القاعدة الإنتاجية وقوة العمل فليس من معنى لأخبار تقول بانخفاض او ارتفاع سعر صرف العملة دون قراءة أسباب ذلك. ودائماً فإن حوامل هذا التنافس هي محلية بالسلب والإيجاب. تقول النظرية الكلاسيكية دائماً بأن انخفاض التصدير وتراجع الاستثمار الأجنبي وريع السياحة تضعف العملة في البلدان التي للريع دور قوي في اقتصاداتها، ومنها سوريا وتونس  على سبيل المثال. ولكن ما معنى انخفاض التصدير؟

 

هي في حقيقة الأمر انخفاض الطلب العالمي على السلع التي تنتجها قوة العمل في البلد قيد الدراسة كي نُعطي للمُنتج حقه الطبيعي كمنتج. وحتى الاستثمارات الأجنبية، فهي في جوهرها، وإن كانت تصب في البلد عملات صعبة، فهي  تأتي متشجعة أو محفوزة بوجود ما يسمى المناخ الاستثماري الجيد والذي من أهم دعائمه وجود طبقة عاملة متدنية الأجور، لا تتمتع بضمانات كافية، ولديها مؤهلات مناسبة او عالية. مما يعني أن قوة العمل هي قوة جذب للاستثمارات الأجنبية والتي بدورها تزيد الطلب على العمل المأجور ومن ثم تدوير اسرع للعملة المحلية مما يقويها ولكن خلال شهر العسل وحسب، فحين يحل موعد دفع فوائد وأقساط القروض تكرر الأزمة نفسها بعد أن تكون قد ضربت في جذور الاقتصاد وليس أوراقه وحسب، وهذا ما دفع الرئيس الأسد إلى رد مليارات الدردري معه كمتحدث باسم الإسكوا والمصرف الدولي، وبالطبع تكون الأموال الساخنة أكثر خطورة لأن االمطالبة باستردادها اسرع .
وبالمقابل، تلعب هجرة راس المال أو تهريبه دوراً معاكساً لمصلحة الاقتصاد الوطني، وهو تطور لا بد أن حصل في سوريا قبل الأزمة وازداد حدة خلالها. وهذا يعني عدم النظر ببراءة إلى راس المال المحلي وخاصة السائل اي الذي لم يتجسد في استثمارات محلية وبالتالي يتطلب التمييز بين راسمال صناعي وراسمال رجال الأعمال الخدماتي والريعي والطفيلي والذي يلجأ في الأزمات إلى المضاربة حيث يلعب دور الإسفنجة المضادة لإسفنجة البنك المركزي.
فكما يبدو فإن المضاربين يقومون بامتصاص العملة الصعبة مما يُفقد الشارع الثقة بالعملة المحلية كما حصل في سوريا مؤخرا إذ وصل سعر صرف الدولار 200 ليرة سورية. وخطورة هذا الامتصاص بأنه قد ينتهي إما إلى تهريب العملة وفي افضل الأحوال ليس ادخارا استثماريا حتى في الاستمارات الصغيرة قصيرة أجل العطاء.

التجارة الدولية والمضمون الطبقي للضريبتين:

من الصعب قراءة التجارة الدولية خارج علاقة النظام الراسمالي العالمي بمكونيه مركز/محيط. فحرية التجارة والأسواق هي الأم القديمة للشعار الجديد والخطير تحرير التجارة الدولية ، وذلك لأن القاعدة في الاقتصاد الراسمالي هي الحماية وليس حرية التجارة. ولعل أحدث البراهين على ذلك معركة الرفض الأميركي منذ 13 سنة ضد دخول السيارات الفارهة اليابانية لأراضيها رغم تناقض ذلك مع نصوص منظمة التجارة العالمية. والمهم في الأمر أن من يلتزم بل يُلزَم بفتح اسواقه هي عادة البلدان التابعة والكل يذكر أنه في اجتماعات العشرين التي تكررت لمعالجة الأزمة الاقتصادية المالية الجارية منذ 2008 وحتى اليوم  كان التركيز على تحرير التجارة الدولية وفتح اسواق بلدان المحيط وذلك لتدفق منتجات المركز المأزوم إلى أسواق المحيط الذي لا قدرة تصديرية حقيقية له وهو أزمة دائمة! وهذا ما يهدف إلى الإبقاء على بلدان المحيط مثابة “قطاع عام رأسمالي معولم لصالح راسمالية المركز” حيث يكون  دور كمبرادور المحيط هو دور حليف تابع لبرجوازية المركز.

وضمن تحرير التجارة الدولية يتم عادة  بل وأساساً خفض الرسوم الجمركية،إرضاء الدوائر المالية، باقتراح يقضي بتأمين مصدر ضريبي جديد يعوضها عن الخسارة في الحصيلة الجمركية، ويقوم الاقتراح على فرض ضريبة القيمة المضافة ضمن برنامج للإصلاح الضريبي، وهذه الضريبة هي من الضرائب غير المباشرة التي سيتحملها في النهاية عامة الشعب وأصحاب الدخول المحدودة حيث يدفعونها دائما فوق سعر السلعة وملتصقة به. وهذا يردنا مرة ثانية إلى طبيعة المستوردات ومن هو جمهورها، وما مدى الحاجة لها وهل هناك بدائل محلية لها، وهل بالإمكان توليد سريع لهذه البدائل، أو العمل على توليد بدائل على المديين المتوسط والطويل؟

وعليه، يصبح من الضروري وقف الخفض المقدم للرسوم الجمركية، واعتماد سياسة تفضيلية طبقاً لطبيعة السلع المستوردة، بمعنى زيادة الرسوم على السلع الترفية التي تطلبها شرائح مجتمعية معينة، أو حتى وقف استيرادها لأن ما يُدفع ثمنا لها هو في النهاية استنزاق القطع الأجنبي. في هذا الصدد اقتطف من د. منير الحمش:
“…ليس هذا فحسب، فقد أدى خفض الرسوم الجمركية إلى تراجع حصيلة الإيرادات الجمركية، كما يستخلص من تقرير الحكومة المالي المقدم إلى مجلس الشعب، فبعدما كانت نسبته تشكل 12% من إجمالي الضرائب عام 2003، أصبحت تشكل 11.3% عام 2011، علماً أن عدم انخفاض النسبة إلى أكثر من ذلك يعود إلى انخفاض نسبة الضرائب المباشرة، في حين تستمر عمليات الاستيراد على وتيرتها المتصاعدة، لكن تبين عمق تأثير خفض الرسوم الجمركية، عندما تنسب حصيلتها إلى إجمالي المستوردات السلعية، ففي حين كانت هذه النسبة 11.6% عام 2003، انخفضت إلى 3.25% عام 2011، وقد كانت حصيلة الرسوم الجمركية إلى الناتج المحلي الإجمالي عام 2003 (2.8%) فانخفضت هذه النسبة إلى 1.17% عام 2011. ولعل ما يزيد مشكلة تخفيض الرسوم الجمركية أن رسوم التأمين على واردات سوريا ترتفع بسبب العدوان إلى جانب أن هذا التخفيض  يويد قدرة اللع الأجنبية على المنافسة على السوق المحلي وما يترتب على ذلك من إخراج مُنتجين من العملية الإنتاجية ونحولهم إلى مروجين للمنتَج الأجنبي وبالطيع مستهلكين له.

البدء بفك الارتباط

أي فك الارباط بالأسواق الغربية المعادية، والتي باشرت هي نفسها مقاطعة سوريا ومحاصرتها، وهذا يذكرنا بفترة الشيوعية الحربية في بدايات الاتحاد السوفييتي، وهي المقاطعة والحصار التي تولدت عنها استراتيجية ومن ثم نظرية فك الارتباط بالسوق العالمي. وأعتقد ان هذه اللحظة مناسبة لسوريا وهي تتضمن فيما تتضمنه تغييرا في نمط الاستهلاك لدى شرائح اجتماعية معينة. وبالطبع لا يمكن البدء بفك الارتباط دون وضع الدولة يدها على التجارة الخارجية.

 الإصرار على تغيير نمط الاستهلاك باتجاه تقشفي ومحلي:

وهذا مرتبط باحتكار الدولة للتجارة الخارجية حيث تمنع عن الأسواق كل ما يمكن توفيره محلياً ومرتبط بفك الارتباط. وهذا يشترط بالطبع رقابة عالية على جودة الإنتاج. وهو أمر من فوائده إقامة شبكة توزيع ورقابة محلية تسهل تسويق المنتجات المحلية وتضبط التلاعب بالأسعار.
لقد افادت تجربة الانتفاضة الأولى بإمكانية عالية لتحقيق هذا الشعار حيث قاطع العمال الفلسطينيون من الضفة القطاع مواقع العمل الصهيونية وقاطع المستهلكون منتجات العدو وهو  ما اسميناه بالاستهلاك الواعي أو الوعي بالاستهلاك. لقد غير المواطنون نمط الاستهلاك بقرار وطني. ولكن بالمقابل ورغم كون الانتفاضة حالة حرب، فإن النخب البرجوازية لم تتوقف عن الدخول إلى الكيان لشراء المنتجات التي قاطعها الجمهور والتي قام شباب الانتفاضة بسحبها من بعض الحوانيت وحرقها  في الشوارع في محاولة رمزية لثني التجار عن استيرادها. والعبرة المستفادة أن إيمان الجماهير بموقف معين أمر ممكن مهما كان صعباً.
إن مقاطعة منتجات الأعداء او الوارد بشكل عام هو في التحليل الأخير قرار استماري وتنموي يحفز رأس المال المحلي على الاستثمار لإنتاج البدائل، وهو ما حصل في الانتفاضة إلى أن كان اتفاق أوسلو الذي ألغى المقاطعة بقرار من سلطة الحكم الذاتي!

 الشريحة السوداء  المعترضة:

لا تنحصر نتائج تحرير التجارة في نزيف القطع الأجنبي أو ضرب المنتج المحلي…الخ بل تقوم شريحة تجار الحرب باحتجاز سلع ونقود مطلوبة مجتمعياً سواء باحتجاز سلع إلى أن يشتعل الطلب عليها كما تقوم بامتصاص العملة الصعبة كذلك سواء كتجار أفراد أو كمصارف  ايضا.
لنقل أن المطلوب  تأميم هذا القطاع، ولو خلال الحرب، على أن يتم تعويض المتضررين بما يسمح به الوضع الاقتصادي وسياسة التقشف. صحيح أن سياسة التدخل المفاجىء ذات آثار جانبية قوية، ولكن ظروف الحرب تسمح بالكثير حتى لو ضمن ذلك استعداء شريحة طبقية هي ليست واسعة بطبيعتها. بل هي لا تساهم في التضحية الميدانية (سمعت أحد الكتاب السوريين محمد جمو يقول: “لم يستشهد ابن اي مسؤول أو ثري بل أبناء الفقراء ورجال القوات المسلحة”. جميل، فمن الذي يجب أن تخدمه الدولة إذن من الأحق!!!
من مخاطر السوق السوداء أنها تلعب دورا كبيرا في ضرب قيمة الليرة السورية من خلال سياسة الإسفنجة حيث تمتص وتضخ في ظرف يسمح لها بتحقيق أرباح فردية عالية بينما تلحق أضرارا بالاقتصاد المحلي وهذا يمكن مواجهته مثلا بهيئة رقابة على الأسعار تولد شبكة شعبية على نطاق وطني (في الانتفاضة كانت الرقابة طوعية) وشراء كميات من الليرة لتقوية وضعها مقابل الدولار مما يرغم المضاربين على إفلات قسم من مخزونهم المحتجز كألغام مالية.

ضبط النظام البنكي والصرافين:

أما الإجراء الأخير الذي قام به البنك المركزي السوري بضخ مئة مليون يورو عبر بعض البنوك والتجار الكبار للسوق من أجل مواجهة انخفاض سعر صرف الليرة بزيادة عرض القطع الأجنبي فقد لا يحقق مبتغاه بسبب طبيعة القنوات التي تم ضخ القطع الأجنبي عبرها وذلك  لعدم قيام هذه المؤسسات بإعادة ضخ ذلك القطع الأجنبي للسوق إما بسبب الرغبة بالتربح أو بسبب المخاطرة وعدم اليقين والخطورة في تكراره.
يذكرنا هذا بالمقادير الهائلة من أموال الإسعاف التي حقنت بها إدارة أوباما المصارف الكبرى الأميركية كي تصمد في الأزمة، ولكنها احتفظت بتلك الحقن ليس بأنها لم تقدمها  للجمهور، بل إن المصارف لم تقرض بعضها بعضا مخافة من كل مصرف أن ينهار الآخر,

 عقبات ليست بيد الدولة

دعنا نفترض أن الحراك الذي بدأ في سوريا كان سلميا ومطلبيا وشعبياً، ودعنا نتجاوز على فهمنا لدور الغرب والكيان الصهيوني الإشكنازي وهدفه في تحويل سوريا إلى دولة فاشلة، ودعنا نفترض أن أنظمة الخليج ليست فزعة من القومية العربية، لو افترضنا هذا جميعها، ولم يحصل لا تدخل ولا عدوان ولا تسليح ولا تجنيد، لكان نقاشنا حينها  بأن مسؤولية الوضع في سوريا هو على الدولة/السلطة  وحدها. ومع ذلك، فإن اختيار قيادة جديدة لحزب البعث خالية من القيادات القديمة يشكل مؤشراً إيجابياً.
ولكن ما حصل هو عمليا عكس كل ما أوردناه أعلاه، وهذا يعني أن هناك عقبات ومخاطر في سوريا لم تحصل بسبب السلطة، مما يجعل التخلص منها واجب سوريا ككل وليس مؤسسة الحكم وحدها وهو ما يتطلب جهدا إضافيا من السلطة لتوضيح ذلك ليتم إنجاز الموجهة الجماعية الشعبية للتحدي وليس الجيش وحده..

فتقطيع الطرق وخاصة بين المدن الكبرى وبين المدن وأريافها لا يرتد إلى تقصير أو خلل من جهاز الدولة، بل هو جزء من مخطط تدمير الدولة ومحاصرة المدن وتجويعها بمنع وصول الأغذية إلى سكان المدن، وهي التجمعات الرئيسية بهدف تحريك السكان ضد السلطة.
ورغم فارق الحالة، إلا أن هذا يذكرنا بقيام الفلاحين في فرنسا بوقف إيصال الأغذية إلى المدن عبر تجنيد الفلاحين من قبل السلطة البرجوازية التابعة لألمانيا ضد كميونة باريس 1870.التشابه في الحالتين هو على الأقل منع وصول الأغذية إلى المدن مما يُحدث حده الأدنى من الإيذاء برفع الأسعار واعتماد المواطن العادي للتسعير بالدولار . صحيح أن هذا التخريب تتم مواجهته بالجيش، ولكن هذا يتطلب إشراك قوى شعبية منظمة في الدفاع عن الأرياف ومن أجل تأمين وحراسة شبكات إيصال المنتجات إلى المدن.

والأمر نفسه فيما يخص تخريب المزارع وتفكيك المصانع وبيعها لتركيا، وسرقة النفط وقيام الاتحاد الأوروبي بشراء النفط المسروق في عملية قرصنة نتائجها إضرار اقتصادي فعلي كما أن له اضرار اعتبارية في شكل حرب نفسية ضد الدولة والمواطنين. وهذا يتطلب جهدا كبيرا من القوى السياسية والمنظمات الشعبية للتوضيح للمواطنين مدى التورط الغربي في تدمير سوريا وزيف مزاعمها عن حقوق الإنسان.
وإلى جانب التخريب والسرقة ليس بوسع السلطة كذلك منع الإعلام المعادي والذي بدا بالكذب والحرب النفسية بشكل ممنهج منذ الأيام الأولى لأحداث سوريا مما يؤكد أن هناك سيناريو كان قد تم وضعه مسبقاً كجزء من العدوان على الدولة.

ولمواجهة هذه الأشكال من التخريب والعدوان، فالسلطة مضطرة لشراء المزيد من السلاح كي تواجه الضخ الهائل من الأسلحة والعتاد والمجندين الذين يُرسلون ضد سوريا، والإنفاق الزائد على هذا ليس خياراً. وإذا ما وضعنا هذا الإنفاق الإضافي إلى جانب فقدان سوريا نصف إنتاجها النفطي والغذائي، ندرك خطورة الوضع وحساسيته وثقل العبء الواقع على كاهل السلطة بما هو عبء إضافي. وضمن هذه الأعباء الإضافية هناك المقاطعة والحصار التي تشنها الدول المعادية لسوريا وخاصة تلك التي لها علاقات تجارية هي الأكبر بين علاقات سوريا التجارية.

وفي حين أن انخراط الشعب في الدفاع عن الوطن هو عامل اساسي في الحروب وخاصة حين يتم احتلال جزء من أراضي الوطن، ندرك خطورة دور القوى الوسطية والانتظارية في هذا الصراع بمعنى أن “حيادها” هو في الحقيقة خدمة للثورة المضادة بمعنى أن سلبيتها تعني التشكيك في احقية السلطة بالبقاء.
وحتى الاستثمار الأجنبي يمكن إدراجه في العوامل الخارجة عن إرادة السلطة. فالدولة التي يزداد تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر إليها، يعني الاستثمار في منشآت مادية محلية ملموسة مثل المصانع والمزارع والمتاجر، يزيد الطلب على عملتها المحلية، وبالتالي تصبح عملتها أقوى، والعكس بالعكس بالنسبة للدولة التي تقل فرص الاستثمار فيها ويهاجر رأسمالها المحلي للخارج. ولكن بعيداً عن الموقف والحذر من تذبذب الاستثمار الأجنبي المباشر وارتبطاته السياسية، فإنه يبقى خارجا عن إرادة الدولة حتى لو قدمت تسهيلات عالية في الحالة السورية لأنه محكوم بقرارات المقاطعة والحصار وهذا يعني أن على الدولة ان تبذل جهودا مضنية في هذا المجال وخاصة مع الدول الصديقة.

خطى يمكن القيام بها

 ليست هذه المقالة خطة اقتصادية لسوريا، ولا أزعم أنني خبير طلبت مني السلطة أو الجماهير ذلك، إنما هي مقترحات مبنية على رؤية تحاول مقاربة المشكلة، وربما حتى على شكل حوار.
تقارب هذه الورقة أكثر من جانب في الأزمة السورية والتي يمكن تكثيفها في الإنتاج، التجارة الخارجية، أمن المنتجين وضبط توجهات الاستهلاك.
هناك أهمية قصوى لمسألة الاستيراد بمختلف جوانبها وخاصة المستوى الاجتماعي الطبقي المتعلق بالمتحكم والمستفيد والمتضرر من تحرير التجارة الخارجية السورية وهو الأمر الذي يُلح بأن تلج الدولة/السلطة هذا الأمر للإمساك بهذا الملف مباشرة واتخاذ إجراءا قاسية منها عدم توريد سلعا اجنبية معينة تلتهم العملة الصعبة وتشبع الاستهلاك المظهري والترفي لفئات محدودة لا تُفرج عن مخزونها من العملة الصعبة سوى لشراء هذه السلع.

إن ضبط الاستهلاك من المستورًد يقود بالضرورة إلى مستوى من الاستثمار بغض النظر عن  الاستثمار في أي مدى مباشر متوسط وطويل، والمهم هنا المباشر ولا سيما في الصناعات القائمة ولكنها متوقفة لعوامل ترتد اساساً لإغراق السوق بالمستورَد. وهذا الاستثمار، بل إعادة تشغيل الاستثمار المجمد يعيد تشغيل قوة العمل ويساهم في توسيع السوق المحلي.

نشرة كنعان

آخر تعديل على الأحد, 19 كانون2/يناير 2014 18:11