«خلصت» و«قربت»... مرة أخرى!

«خلصت» و«قربت»... مرة أخرى!

لا تزال الموجة الجديدة من الحراك الشعبي في سورية في بداياتها، والاحتمالات أمامها مفتوحة على التطور أو الانكفاء المؤقت والتطور اللاحق، ولكن احتمالات تطورها سواء عاجلاً أو آجلاً هي الاحتمالات الأكبر رغم كل ما يظهر من سلبيات حتى اللحظة.

أبرز السلبيات وأكثرها ضرراً، بالحركة نفسها، وأكثرها خدمةً للمتشددين في النظام أولاً وفي المعارضة ثانياً، هي نسخ ولصق الشعارات والأشكال والأفكار التي سادت في 2011.
في 2011، ونتيجة القمع من جهة، ونتيجة التدخلات الخارجية بما فيها الإعلامية، تم الدفع نحو شعارات ترفض الحوار وترفض الحل السياسي ومن ثم تشجع العنف والعسكرة. وطوال السنوات الثلاث أو حتى الأربع الأولى، كان المتشددون في الطرفين يتقاسمون الوعود الكاذبة للناس، فطرف يقول «خلصت»، والثاني يقول «قربت»، والطرفان معاً يقولان لا للحوار ولا للحل السياسي.
واليوم أيضاً، ينشط البعض على بث الأفكار نفسها مجدداً، وخاصة أولئك أنفسهم الذين بثوا هذه الأفكار في المرة الأولى؛ فنسمع من يروج أنّ النظام سيسقط بعد أسابيع، ونسمع أيضاً أنّ «الدولة» لا تزال صابرة ولكن صبرها سينفد قريباً وعندها سيتم البطش بالناس وإخضاعهم مجدداً، وحينها ستكون «خلصت».
هاتان الفكرتان، ورغم أنهما تبدوان متناقضتين شكلياً، إلا أنّ لهما جوهراً واحداً يتمثل بما يلي:
• استخدام الشعارات القصوى غير الجامعة للـ90% المنهوبين، يعني منع اتساع صفوف الحركة الشعبية، ويعني إبقاءها محصورة في حدودٍ هي أضيق بكثير من الحدود الحقيقية لغضب الناس ورغبتها في التغيير.
• استنساخ شعارات ورموز وأشكال 2011 يعني إعادة قسم الشارع السوري ضمن المعادلات التي تخدم بالدرجة الأولى استمرار الأزمة واستمرار المهيمنين على البلاد في كل مناطقها في مواقعهم.
• استنساخ شعارات ورموز 2011، وما ينتجه من حدٍ لاتساع الحركة الشعبية، يمكن أن يؤدي إلى إحباط الناس وتخييب آمالهم، وهذا ما يرجوه كل أعداء التغيير.

2254 والإسقاط!

من مميزات الموجة الجديدة مطالبتها بالحل السياسي والتغيير والانتقال السياسي عبر القرار 2254، وهذه إيجابية وعنصر قوة لها. ولكنّ هنالك تناقضاً بين المطالبة بتنفيذ 2254 وبالإسقاط في الوقت نفسه؛ فالقرار يقول بتوافقٍ بين النظام والمعارضة من أجل الانتقال السياسي، ولا يقول بانتصار طرف على طرف. مدخل الحل هو معادلة لا غالب ولا مغلوب، وليس معادلة غالب ومغلوب. والدفع باتجاه غالب ومغلوب يعني الدفع مجدداً باتجاه تعميق الأزمة لا حلها.
هذا لا يعني بحالٍ من الأحوال أنه لا يحق للسوريين أو لقسمٍ منهم بأن يعبّروا عن رغبتهم في تغيير السلطة القائمة، بمنظومتها وحتى بشخوصها. هذا حقٌ لا يمكن لأحد نزعه، على الأقل من وجهة النظر «الدستورية» التي يفترض أنها تضمن حرية التعبير.
ولكن في الوقت نفسه، ينبغي أن يكون واضحاً أنّ رفع شعارات مناقضة للحل السياسي وللقرار 2254، من نمط شعارات الإسقاط، وخاصة تلك التي تنحدر نحو الشتم والشخصنة، تساعد بالدرجة الأولى أولئك الذين يتم شتمهم؛ تساعدهم في منع المنهوبين من تجميع شتاتهم وتنظيم صفوفهم بشكل سلمي فاعل قادرٍ على الضغط باتجاه الحل أضعاف ما يمكن للحركة بشكلها الحالي أن تفعله.

نجمتان وثلاث نجوم

بعد كل ما مر على السوريين خلال 13 عاماً، وبعيداً عن أيّ كلامٍ شعاراتي، فإنّ قسماً من السوريين بات يعتبر علم النجوم الثلاث علمه، وقسم آخر يعتبر علم النجمتين علمه. و90% من هذا القسم ومن ذاك، هم من المنهوبين ومن الراغبين بإعادة وحدة سورية ووحدة شعبها، ومن المطالبين بالحياة الحرة الكريمة لهم ولبلادهم ولأولادهم. ولذا فإنّ على الحركة الشعبية في طورها الجديد أن تبحث عمّا يجمع لا عمّا يفرق، وعمّا يوحد لا عما يشتت... وهذا يشمل مختلف الرموز التي يجري استخدامها، بما في ذلك الرموز ذات الطابع المناطقي، والتي مهما كان حجم الإجماع عليها في منطقة من المناطق، رغم أنّ الأمر ليس كذلك دائماً، فهي ليست محل إجماع وطني عام... ومحاولة زجها في واجهة الحركة يعطي الحركة من حيث لا تريد طابعاً مناطقياً لا طابعاً وطنياً شاملاً...

خطاب جامع

يجري إعلامياً تظهير أنماط وأشكال محددة من الحراك، وتجري التغطية على أشكال أخرى. إنّ الخطاب العقلاني والثوري في آنٍ معاً، والذي يجمع بين المستوى المطلبي الاقتصادي والسياسي المتمثل بالحل وبـ2254، ودون شخصنة ودون شتائم، هو الخطاب القادر على جمع المنهوبين، وعلى تشجيع اشتراك عشرات ومئات الآلاف بل والملايين، المترددين في الاشتراك، والمتخوفين تخوفاً ينبغي احترامه وعدم التعالي عليه.
أمثلة هذا الخطاب العقلاني والثوري في آنٍ معاً، موجودة وكثيرة، وتحتاج إلى إبرازها واحتضانها ودعمها.
بالتوازي، ينبغي الدفاع عن الحركة الشعبية في وجه محاولات تخوينها وتصيّد عثراتها؛ فالحديث عن «المؤامرة» هو حديث صحيح حين يبدأ بأولئك الذين يشرفون على توزيع ثروة يذهب فيه 90% من الثروة المنتجة في سورية لأقل من 10% من سكانها، وليس بالحديث عن غضب الـ90% المفقرين المنهوبين وقد فاض بهم الكيل وما عادوا قادرين على تحصيل لقمة عيشهم في ظل سياسات رفع الدعم والخصخصة بأشكالها المواربة والانحياز الكامل لأصحاب الأرباح والتجار الكبار ضد مصلحة عموم الناس.

«الكرامة» و«الجوع»

بين الثنائيات التي يجري طرحها، القول بأنّ من يتحركون الآن إنما يحركهم الجوع، وليس الكرامة!
الفصل بين الجوع والكرامة وتقديمهما بوصفهما نقيضين ليس أمراً تصادفياً أو عبثياً، بل هو أمر مقصود؛ فمن يقولون بذلك يريدون القول إنّ حراك الناس ليس حراك المنهوبين المفقرين الذين يشكلون 90% من السوريين، بل هو حراك «ديمقراطي سياسي» ليس فيه جانب طبقي ولا اقتصادي.
والذين يسعون إلى هذا الفصل يضمرون أنهم أصحاب مشروع اقتصادي هو نفسه المشروع الاقتصادي السائد الآن، أي الليبرالية الاقتصادية الناهبة نفسها. بل ويظهرونه أيضاً؛ فمن يقرأ البرامج السياسية والاقتصادية لجزء من القوى التي تدّعي أنها الأشد معارضة للنظام، وبينهم على سبيل المثال لا الحصر «الإخوان المسلمون»، يرى أنّ لديهم البرنامج الاقتصادي الاجتماعي نفسه الذي لدى النظام القائم... وإذاً؟ ما المطلوب؟ أن يتم تبديل ناهبين بناهبين؟ قطعاً لا. المطلوب بناء نظامٍ اقتصادي اجتماعيٍ وسياسي جديد منحاز لمصالح الـ90% المنهوبين وليس لمصالح الـ10% الناهبين.
ولذا لا يخجلنّ أحد بالقول إنّ الحركة حركة «جوع»؛ فالعيب ليس بمن يجوع، بل بمن جوّعه... ولا كرامة للإنسان دون أن يؤمّن على حياته وحياة أهله بكل المعاني وأبسطها الغذاء والدواء والصحة والسكن والتعليم... وتأمين هذه المطالب لا يتم واقعياً دون تغيير جذري مدخله هو الحل السياسي... فهي حركة جوع وحركة كرامة ولا تفاضل بينهما، بل هما في الجوهر أمرٌ واحد.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1137
آخر تعديل على الجمعة, 05 كانون2/يناير 2024 22:02