حول الانتقال من الفضاء السياسي القديم إلى الجديد... وآجاله
ريم عيسى ريم عيسى

حول الانتقال من الفضاء السياسي القديم إلى الجديد... وآجاله

طرح حزب الإرادة الشعبية فكرة الفضاء السياسي القديم والجديد منذ مطالع الألفية، (وكان اسمه حينها هو اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين).

في ذلك الوقت، واستناداً إلى قراءة مركبة؛ للوضع العالمي بما فيه من تغيرات كبرى سياسية واقتصادية حصلت منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، ولوضع الحركات التقدمية والتحررية حول العالم، وكذا للوضع الداخلي بمناحيه الاقتصادية والسياسية، توصل الإرادة الشعبية إلى صياغة أولية لفكرة الفضاءين جوهرها هو التالي:
الفضاء السياسي الذي تكوّن في نهايات النصف الأول من القرن العشرين، بما يشمله من تنظيمات سياسية وعقليات وآليات عمل وتفكير، سواء على المستوى العالمي أو المحلي، قد انتهت صلاحيته التاريخية رغم أنّه لم يغادر مواقعه الرسمية والشكلية. وأنّ أهم مؤشرات انتهاء صلاحية ذلك الفضاء هي انفصاله عن الناس وعن الواقع، وفقدانه للأدوار الوظيفية التي كان يلعبها فيما مضى.
ولأنّ الطبيعة والحياة لا تقبلان الفراغ، فإنّ التجربة التاريخية عبر قرون قد أكدت دائماً أنّ هذه الظاهرة، أي ظاهرة موت فضاءٍ سياسي قديم، هي فاتحة ولادة موجات جديدة من الحركات الشعبية، وهذه الأخيرة هي نفسها قابلة الفضاء السياسي الجديد.
وربما لا جديد فيما ذكرناه أعلاه، ولكن ما يبدو أكثر إلحاحاً اليوم، وخاصة مع الحالة المأساوية التي تعيشها سورية ويعيشها شعبها، هو نقاش الآجال الزمنية لعملية الانتقال من الفضاء القديم إلى الجديد...

بانوراما

من المفيد قبل الحديث عن الآجال، أن نستذكر عبر اقتباسات من قاسيون نفسها، نقصرها على العقد الماضي، الكيفية التي طرحت ضمنها فكرة الفضاءين القديم والجديد، والتي تمتد على النظام ومعارضته معاً، وبعدها سننتقل لقول بضع كلمات حول آجال الانتقال...
«إن المعارضات التي اقتصرت شعاراتها على المطالب الديمقراطية- في حدود كسر احتكار النظام للسلطة- بينما لم تتمايز عن الأنظمة في المسألة الاقتصادية/الاجتماعية بتبّنيها للليبرالية، ولا في المسألة الوطنية عبر الاستقواء بالخارج أو التظلّم له، راهنت مخطئةً على أن شعاراتها تلك ستكون رافعةً للتغيير، ولم تنتبه إلى مسألة مهمّة، وهي أنّه ليس صعباً على الجماهير أن تدرك أن الممارسة الديمقراطية تنتج في سيرورة الممارسة في الميادين الاقتصادية/الاجتماعية والوطنية، وأن الفارق بين المعارضة والنظام هو من الذي يمسك بزمام السلطة ويمارس السياسات الليبرالية، أو التطبيع مع الكيان الصهيوني، ويعزز موقعه بالاعتماد على الخارج».
من مادة «بدء انهيار الفضاء السياسي القديم» 8 آذار 2011

•••

«مع استمرار عجز الفضاء السياسي القديم، فإن الحركة الشعبية ذاهبة إلى أن تكون فضاء سياسياً جديداً، لا يأخذ من القديم إلا العناصر الواعية لجوهر التغيير المطلوب على مستوى المجتمع والدولة، أي القوى التي تمتلك برنامجاً حقيقياً للمرحلة المقبلة، وبمعنى آخر، هي ذاهبة لأن تنفي عنها طابعها العفوي، وتنظم ذاتها في حركة سياسية جديدة، إلا أن هذا التغير لن يسير بطريقة سلسة وآلية، بل هو مرهون بدرجة كبيرة بتفاعلات الأزمة اليوم على المستوى الداخلي، وبما يستجد من أشكال في الصراع، وبالوضع الدولي الجديد، وتداعيات الأزمة الرأسمالية العالمية».
من مادة «الحركة الشعبية... إلى أين؟» 6 حزيران 2012

•••

«الطريقة التي ستحل بها الأزمة لابد أن تلقي بظلالها على الجديد، آخذين بعين الاعتبار أن مكونات الفضاء السياسي القديم (نظام/معارضة) ما زالت تمسك بجزء هام من الأدوات السياسية والتنفيذية على الأرض، بالإضافة إلى أن الجديد لمّا يُولد بعد بشكله المتكامل، أي بكونه بديلاً عن القديم، والأهم من ذلك، هو سعي كلا الطرفين إلى وأد الجديد، قمعاً أو امتطاءً، وهذه النقطة تستوجب التوقف مطولاً والبحث عن الأدوات المستخدمة دون ذلك المسعى».
من مادة «القديم استنفد دوره، فماذا عن الجديد؟» 13 حزيران 2012

•••

«حين نعطف (المعارضة) على النظام فنقول (معارضته) فإنما نعني انتماء كل منهما إلى الفضاء السياسي القديم، الفضاء الذي تكون في عهد ما بعد الاستقلال واستمر حتى حينه بقوة العطالة، الفضاء الذي تكونت أدبياته وتطورت في عصر غياب أو ضعف الفعل السياسي للجماهير، فاستمرأ سياسيو الفضاء القديم هذا الغياب، وباتوا غير قادرين على أن يعوا معنى عودة الجماهير إلى ساحة الفعل السياسي».
«ينتمي كل من النظام ومعارضته إلى شكل قديم من الصراع على الثروة هو الصراع بين الناهبين، وتنتمي جماهير النظام وجماهير معارضته وما بينهما، إلى صراع جديد: منهوبين ضد ناهبين».
من مادة «سلطة.. نظام.. جماهير» 4 تموز 2012

1058-2

•••

«سورية بالمرحلة الراهنة تعتبر واحدة من نقاط ومراكز الصراع الدائر بين الفضاءين، القديم الآفل، والجديد الناشئ، والوضع القائم بها، حالياً وحلولاً متوخاة وأفقاً، متعلق بالوضع العالمي ككل، رغم محدودية خياراته بحكم الضرورات الموضوعية، وهي على ذلك أمام تحديات جدّية وعميقة، سيغدو معها الوعي السياسي القديم وأدواته غير قادرين على الفعل والتأثير بها، إلّا بالشكل السلبي».
«إن المنعطف الذي يمر به العالم أجمع بهذه المرحلة، والمتغيرات التي يفرضها الفضاء السياسي الدولي الجديد، ستفرض على الجميع أن يستبدلوا أدواتهم السياسية القديمة المرتبطة بالوعي السياسي التقليدي، باعتبار أن هذا الوعي وتلك الأدوات لم تعد قادرة على أن تجيب عن الأسئلة المفروضة والناشئة، بحكم المتغيرات الجديدة الطارئة، وبالدرجة الأولى التوازن الدولي الجديد، وكل من يستطيع أن يبلور وعيه السياسي معتمداً على القاعدة المعرفية الواسعة والعميقة، ويمتلك الأدوات السياسية الجديدة، سيكون من الناجين من مغبات الانحراف عن السكة في هذا المنعطف المتسارع».
«بالمقابل: فإن الكثير من القوى «القديمة الراهنة» أو «المستحدثة اصطناعاً»، ستصبح بحكم الماضي قيد الدفن مع فضائها السياسي الآفل، سواء على المستوى المحلي أو الاقليمي أو الدولي، وهي ضرورة موضوعية بدأت تثبت ذاتها بالواقع العملي الملموس، وهناك العديد من الأمثلة الحية على ذلك، اعتباراً من بعض القوى المحلية التي ذابت وانمحت وتلاشت، أو هي قيد التلاشي، مروراً ببعض القوى الإقليمية التي بدأ يضمحل دورها وهي في طور الانتهاء، وليس انتهاءً بأمريكا نفسها، والتخبط الجاري فيها وحولها، مع كل تداعيات ذلك على مستوى علاقاتها وأتباعها».
من مادة «مرحلة انعطافية ووعي جديد» 2 تموز 2017

•••

«الملف السوري، بمقدماته ونتائجه، وخاصة على مستوى الحل السياسي المتمثل بالقرار الدولي 2254، يعتبر واحداً من أهم بوابات العبور نحو الفضاء السياسي الدولي الجديد، الذي بدأ يتشكل وتقوى عزيمته، على أنقاض الفضاء السياسي القديم الآفل والمتهاوي، مع كل ما سيرافق ذلك من تهاوٍ للكثير من الأوهام وأحلام اليقظة، التي ما زال البعض يراهن عليها عبثاً ويأساً».
«برغم كل التقدم الجاري على محور الحل السياسي، ومحور الفضاء السياسي الجديد، وبرغم كل التراجع والانكفاء والتفكك على محور الحرب والتصعيد، ومحور الفضاء السياسي الآفل، إلّا أن هذا الأخير لم يستنفد إمكاناته كلها بعد، كما أن الأول لم يستخدم جميع إمكاناته ويستنهضها كذلك الأمر، وبالتالي فإن المساعي اليائسة للعرقلة والإعاقة، كما المساعي اليائسة للإحباط والتيئيس، ستبقى قائمة ومستمرة لدى القوى الآفلة والمتراجعة، حتى الرمق الأخير من إمكاناتها وإمكانات أتباعها، وأدواتهم ووسائلهم المشتركة».
من مادة «بين القديم والجديد» 5 آب 2017

•••

«إن الفضاء السياسي الجديد الذي يتشكل في البلاد، يتجاوز كل التصنيفات والتقسيمات المشوهة الظاهرة، فهو لا يعني النظام لوحده، ولا المعارضة لوحدها، بل يعني اصطفافاً حقيقياً جديداً، قائم على أساس الموقف من التغيير الوطني الديمقراطي الجذري والشامل، الذي يعتبر الحل السياسي على أساس القرار 2254 إحدى ضروراته التي لا غنى عنها، ومن هنا فإن الدور اللاحق لأية قوة سياسية في سورية بما فيها استمرار وجودها الفعلي من عدمه في الخريطة السياسية السورية يمر عبر موقفها الفعلي من الحل السياسي، بغض النظر عن اصطفافها المعلن الراهن، بما فيها قوى تحسب نفسها على المعارضة، كونها تنتمي برنامجاً وممارسة وسلوكاً إلى الفضاء السياسي القديم، وتحاول يائسة أن تلعب دور المعرقل أمام استحقاق موضوعي لا راد له، وتسعى إلى التشويش على الحل السياسي وقواه الجدّية والفاعلة، وبالإضافة إلى ذلك، فإن الحدود بين القديم والجديد لا تتحدد بالعمر الزمني لهذه القوة أو تلك، بل بمدى توافق مواقفها العملية وسياساتها مع الاستحقاقات التاريخية التي تفرض نفسها على جدول الأعمال.. الجديد يُولد رغم آلام مرحلة المخاض كلها، والجميع أمام امتحان تاريخي، إما الدخول إلى التاريخ أو الخروج منه».
من مادة «سوتشي vs الفضاء القديم» 21 كانون الثاني 2018

•••

«تعود هذه المقولة في جذرها إلى تنبؤ الحزب باكراً بأن البشرية مقبلة على توازن دولي جديد، أي على تغيير كبير في النطاق العالمي، وبناءً على ذلك، فإن هنالك قوى سياسية وأحزاباً وحركات ستكون موضوعة على قائمة التلاشي إن لم تستطع أن تكون جزءاً من هذا التغيير، وبكلمة أخرى: ستكون هنالك بُنى سياسية بأكملها تنهار، وبُنى أخرى تنشأ، والقوى السياسية التي ستستطيع التكيُّف مع الفضاء الجديد ستكون لها الأولوية في المرحلة المقبلة».
«هنالك معادلة دولية (إقليمية محلية) جديدة تماماً، من يتمكن من فهمها وحلها يبقى، ومن يفشل يسقط».
«من أهم سمات موت الفضاء السياسي القديم اليوم هو الظرف الشعبي الضاغط الذي تعيشه عدد كبير من الدول، في مقابل عجز المنظومات السياسية التقليدية عن اتخاذ سياسات تمكنها من احتواء هذا الظَّرف».
«في منطقتنا، نشهد اليوم أزمة عميقة. فالفضاء السياسي القديم الناتج عن مرحلة ما بعد الاستقلال قد استنفد نفسه، وهو في حالة موت سريري».
«من الملفت للانتباه، أنَّ وفاض هذه الأنظمة يصبح خالياً شيئاً فشيئاً من «الحلول» التي اعتادت اللجوء إليها في حالات الاعتراض الشعبي الواسع، فلا القمع ينفع، ولا محاولات الاحتواء التقليدية تنجح، فيما تُراكم الحراكات الشعبية الخبرة والاستفادة من تجارب بعضها البعض. في المقابل، تشهد العديد من القوى المعارضة لهذه الأنظمة حالة من التأخر عن مواكبة الجديد، هذا الجديد الذي يتكوّن اليوم في الشوارع والساحات، وقبل ذلك في النقاش السياسي الدائر بين الناس حول الآفاق المقبلة والممكنة».
من مادة: «ماذا يعني موت الفضاء السياسي القديم؟» 2 كانون الأول 2019

•••

حول آجال الانتقال

من المفيد في إطار محاولة وضع تصورٍ حول الآجال الزمنية التي يمكن أن تأخذها عملية الانتقال من القديم إلى الجديد، أنْ ننظر إلى السوابق التاريخية لعمليات مشابهة...
المثال الأحدث تاريخياً، هو الذي حدث خلال مطالع القرن العشرين، أي الانتقال المركب الذي جرى ابتداءً من الحرب العالمية الأولى وإلى ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
ضمن تلك المرحلة، انتقل العالم من مرحلة سيادة الاستعمار الأوروبي الغربي على العالم بأسره، إلى مرحلة باتت تسمى لاحقاً مرحلة الحرب الباردة، ولكن هذا ليس كل شيءٍ حول هذا الانتقال...
ضمن الانتقال نفسه، كانت هنالك موجة حراكات شعبية لم تقتصر في مفاعيلها على ثورة أكتوبر في روسيا، والتي وصلت إلى تشكيل الاتحاد السوفييتي، بل وشملت أيضاً جملة حراكات ضمن المركز الأوروبي نفسه، أحد تجلياتها هي حراكات 1918 وغيرها من الحراكات. وكذلك حركات التحرر الوطني في مجمل بلدان العالم الثالث، والتي وضعت حجر أساس في الانتقال نحو الاستقلال، وبمعية التغيرات الكبرى في التوازن الدولي الذي أصبحت معه دول الاستعمار القديم أضعف بما لا يقاس مما كانت عليه نهايات القرن التاسع عشر.
إذا نظرنا إلى المرحلة التاريخية التي تطلبها تشكيل ما نسميه اليوم فضاءً سياسياً قديماً، وكان في حينه الفضاء الجديد، فإننا سنرى أمامنا مرحلة تاريخية عصيبة وغير قصيرة...
فالمدى الزمني بين تعفن القديم وموته، وبين دفن ذلك القديم بالتوازي مع ولادة وتصلب عود الجديد، يمكن أن يؤرخ لها بين 1917 وحتى 1945 تقريباً، أي ما يقرب من ثلاثين عاماً أو أكثر.
ليس هذا الحساب مقصوراً على مستوى القوى العالمية الكبرى، بل وأيضاً ضمن حسابات القوى الإقليمية والمحلية؛ فمثلاً في منطقتنا، وفي سورية نفسها، فإنّ الفاصل الزمني بين بداية النضال ضد الاستعمار الفرنسي والغربي عموماً وبين الاستقلال السياسي عنه، هو ذاته تقريباً الفاصل على المستوى العالمي...
عودة إلى الحاضر، فإنه يمكن التأريخ لبداية النضال العالمي ضد التوازن الدولي القديم، وضمناً ضد الفضاء السياسي العالمي القديم، ابتداءً من 2005 على الأقل، توازياً مع الصعود الصيني ثم الروسي.
أي أنّه قد مرت أكثر من 15 سنة من عمر هذا الانتقال بين القديم والجديد. ولكن السؤال المنطقي هو: هل سيحتاج هذا الانتقال كما السابق إلى 30 عاماً؟ قطعاً لا، لأنّ التسارع التاريخي كقانون موضوعي يفرض نفسه على الأحداث والوقائع...
يبقى أن نقول: إنّ المناضلين الحقيقيين ضمن عمليات الانتقال الكبرى هذه، لا تلين عزيمتهم ولا يتراجعون مع تعقد الأمور واستطالة آجالها؛ فسلطان باشا الأطرش ورفاقه، ورغم أنّ الطور العسكري من نضالهم للحصول على الاستقلال قد انحسر إلى حد بعيد بعد 1927، إلا أنهم لم يتوقفوا يوماً واحداً عن متابعة العمل، ووصولاً إلى الهدف المنشود...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1058
آخر تعديل على الإثنين, 21 شباط/فبراير 2022 13:12