ماذا يعني «موت الفضاء السياسي القديم»؟

ماذا يعني «موت الفضاء السياسي القديم»؟

مع بدايات القرن الحالي، شكّلت مقولة «موت الفضاء السياسي القديم، وولادة فضاء سياسي جديد» واحدة من عناصر رؤية حزب الإرادة الشعبية (اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين سابقاً). 

تعود هذه المقولة في جذرها إلى تنبؤ الحزب باكراً بأن البشرية مقبلة على توازن دولي جديد، أي على تغيير كبير في النطاق العالمي، وبناءً على ذلك، فإن هنالك قوى سياسية وأحزاباً وحركات ستكون موضوعة على قائمة التلاشي إن لم تستطع أن تكون جزءاً من هذا التغيير، وبكلمة أخرى: ستكون هنالك بنى سياسية بأكملها تنهار، وبنى أخرى تنشأ، والقوى السياسية التي ستستطيع التكيُّف مع الفضاء الجديد ستكون لها الأولوية في المرحلة المقبلة.

ليس الأنظمة فحسب

قبل الدخول في صلب الموضوع، لا بدَّ من التنويه بعاملين اثنين: الأول، هو أنّ مقولة «موت الفضاء السياسي القديم وولادة الجديد» لا تخصُّ الأنظمة الحاكمة في العالم والقوى التي تمسك زمام السلطة فحسب، بل تطال البنى السياسية كلها وعلى اختلاف تموضعها (بمعنى آخر: إن وجود هذه القوة السياسية أو تلك في موقع المعارضة للسياسات القائمة، أو حتى في موقع «اليسار»، لا يعني بالضرورة أنها تملك تذكرة الدخول إلى الفضاء السياسي الجديد). أما الثاني، فهو أن هذه المقولة تنطبق على البنى السياسية بغض النظر عن هويتها (تقدمية، رجعية، مقاومة... إلخ). فالمسألة هي أن هنالك معادلة دولية (إقليمية محلية) جديدة تماماً، من يتمكن من فهمها وحلها يبقى، ومن يفشل يسقط.

الحركة الشعبية وعجز المنظومات

من أهم سمات موت الفضاء السياسي القديم اليوم هو الظرف الشعبي الضاغط الذي تعيشه عدد كبير من الدول، في مقابل عجز المنظومات السياسية التقليدية عن اتخاذ سياسات تمكنها من احتواء هذا الظَّرف. وإذا انطلقنا من هنا، يمكننا إجراء رصد أوَّلي لبعض أهم ملامح تجلِّي هذه المقولة على الساحة العالمية اليوم:
في الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال، يمكن السؤال «ماذا وراء ظاهرة ترامب؟»، ولماذا اضطرت النخبة الحاكمة (الحاكمة فعلياً) إلى تقديم رجل اضطرت وسائل الإعلام إلى تذكير جمهورها دائماً بأنه رجل أعمال «من خارج الأوساط السياسية»؟ في الواقع، شكَّلت هذه السياسة التي لا تزال مستمرة إلى الآن ردة فعل من النخبة الحاكمة على تزايد الرفض الشعبي فعلياً لثنائية «جمهوري، ديمقراطي» السائدة في الولايات المتحدة، مما يُضطر قطبا هذه الثنائية إلى تلميع وتقديم بعض الشخصيات التي لا تتبع بالضرورة إلى النواة الصلبة للحزب المعني. وإلقاء نظرة على الأسماء التي يطرحها الحزبان لخوض الانتخابات الرئاسية لعام 2020 يمكنها أن تعزِّز فهم هذه السياسة.

أوروبا والانفكاك التدريجي عن واشنطن

في الحالة الأوروبية، تعبّر مقولة موت الفضاء السياسي القديم عن نفسها من خلال بدء تفكك تلك البنى التقليدية التي سادت المشهد الأوروبي خلال النصف الثاني من القرن العشرين، كالنقاش المتزايد اليوم عن آفاق بقاء الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وحضور هاتين المسألتين في البرامج السياسية لمعظم الأحزاب. أما التعبير الأمثل عنها، فيتجسَّد بالتراجع الواسع جداً للأحزاب «الاشتراكية الديمقراطية» التي حكمت مطوَّلاً في أوروبا، في مقابل صعود أحزاب جديدة لم يكن لها أي أثر يُذكر قبل أعوامٍ قليلة، مستفيدة من المستوى العالي للحركة الشعبية والتفكير الجدي بمسائل الهويّة والانتماء والمصلحة: يلحظ في ألمانيا، مثلاً، تزايد السؤال «إلى من نحن أقرب؟ واشنطن أم موسكو؟».

القطع مع النهب الإمبريالي وأدواته

يمكن القول إن ما تشهده الساحة الأمريكية اللاتينية اليوم هو واحد من تجليات مقولة موت الفضاء السياسي القديم. بحيث تعبّر الانقلابات التي نجحت ضد الحكومات الاشتراكية وعودة بعض الرؤساء الاشتراكيين إلى الحكم بعد هذه الانقلابات عن أنَّ السياسات الاشتراكية غير الجذرية لم تعدَّ نافعة في ظل تعقيدات الواقع، أو بالأحرى إنه لم يعد ممكناً التعايش بين السياسات الإصلاحية الاشتراكية ووجود عصابات مالية تُمسك بمفاصل حساسة في أجهزة الدولة. وذلك لا يعني أن القوى التي غادرت الحكم ستكون بالضرورة جزءاً من الفضاء القديم الميِّت، بل إن المسألة مرتبطة بإعادة صياغة البرامج والأدوات والإستراتيجيات للتكُّيف مع الفضاء الجديد، التكيّف الذي سيكون مرهوناً بمستوى تجذير الخطاب الاشتراكي.
وعلى هذا النحو، يمكن الحديث عن إفريقيا، التي تعيش اليوم صراعاً بين القوى السياسية التي تكيّفت مع النهب الإمبريالي لدول القارة، وبين تلك القوى التي ترى في التوازنات الدولية الجديدة فرصة للخلاص من هذا النّهب تماماً.

الوفاض الخالي لأنظمة المنطقة

في منطقتنا، نشهد اليوم أزمة عميقة. فالفضاء السياسي القديم الناتج عن مرحلة ما بعد الاستقلال قد استنفد نفسه، وهو في حالة موت سريري كما تثبت الأحداث المتسارعة في المنطقة مؤخراً (لبنان والعراق نموذجاً).
وعليه، من الملفت للانتباه، أنَّ وفاض هذه الأنظمة يصبح خالياً شيئاً فشيئاً من «الحلول» التي اعتادت اللجوء إليها في حالات الاعتراض الشعبي الواسع، فلا القمع ينفع، ولا محاولات الاحتواء التقليدية تنجح، فيما تُراكم الحراكات الشعبية الخبرة والاستفادة من تجارب بعضها البعض. في المقابل، تشهد العديد من القوى المعارضة لهذه الأنظمة حالة من التأخر عن مواكبة الجديد، هذا الجديد الذي يتكوّن اليوم في الشوارع والساحات، وقبل ذلك في النقاش السياسي الدائر بين الناس حول الآفاق المقبلة والممكنة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
942
آخر تعديل على الإثنين, 02 كانون1/ديسمبر 2019 13:51