«صفقة» انهيار النظام الاستعماري الحديث

«صفقة» انهيار النظام الاستعماري الحديث

نال إعلان الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، عن تفاصيل جديدة مرتبطة بـ«صفقة القرن» حصة وافرة من التغطية الإعلامية والسياسية خلال الأسبوع الماضي. وكما هو متوقع عند كل خطوة أمريكية من هذا الشكل، شحذ بعض المحللين أقلامهم، ونظموا كلاماً مستهلكاً عن القوة الأمريكية المنفردة، وقدرتها على فرض مشاريع إقليمية ودولية تتطابق مع مصالحها.

المشكلة في مثل هذا النوع من التحليلات لا تقتصر على أنها منافية للحقيقة والواقع فحسب، بل في سهولة فهمها واستساغتها دون عناءٍ كبير بسبب قوة عطالة الأفكار والمقولات التي سادت ردحاً طويلاً من الزمن. لكن بحثاً متروياً في المسألة يأخذ بالحسبان السياق الذي جاءت فيه الخطوة الأمريكية، والظرف الدولي الذي تجري فيه، لن يطول به المطاف قبل أن يقود إلى نتيجة مفادها أن «صفقة القرن» هي تعبير عن أزمة، وهي أزمة أمريكية على وجه الخصوص.

مفاصل أساسية

منذ أوائل القرن الماضي، مرّت القضية الفلسطينية بعدة مفاصل أساسية، من وعد بلفور 1917، إلى حرب1948، ومن ثم حروب 67 و73، واتفاقات كامب ديفيد ووادي عربة، ومن ثم اتفاق أوسلو في 93/94، وصولاً إلى «صفقة القرن» التي نعيش تفاعلاتها اليوم. وإذا أمعنا النظر في كل واحدٍ من هذه المفاصل، لوجدنا أن فيه تعبيراً عن أزمة كامنة لدى المراكز الاستعمارية. حيث إن أكثر البحوث حصافة حول أسباب وعد بلفور تؤدي إلى استنتاجين، يذهب الأول إلى القول بشعورٍ بريطاني مبكر بضرورة خلق واقع جديد في المستعمرات البريطانية يسمح للمملكة المتحدة بتخفيف أعباء إدارة هذه المستعمرات، بينما يؤكد الثاني على أن السبب هو رغبة بريطانيا بالحصول على دعم اليهود الأمريكيين للضغط على واشنطن حتى تدخل الحرب العالمية الأولى. وفي الحالتين، ثمة عاملٌ متحكم وأساس، وهو بداية تراجع وزن بريطانيا وقدراتها عالمياً. وكذلك الحال بالنسبة للمفصل الثاني، أي حرب 1948، والتي جاءت في سياق انهيار نظام الاستعمار التقليدي، المعبّر عنه بتظهير تراجع وزن القوتين الاستعماريتين البريطانية والفرنسية، وتصاعد وزن الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية.
مفاصل (كامب ديفيد ووادي عربة ومن ثم أوسلو) جاءت جميعها في إطار توازن دولي محدد كانت الغلبة فيه هي للأمريكي، وإنْ كان ذلك غير واضح بشكل كامل أيام كامب ديفيد ووادي عربة، لكنه كان شديد الوضوح أيام أوسلو، التي جرت في عهد الأحادية القطبية الأمريكية المطلقة.
بالمقابل، فإنّ «صفقة القرن» تأتي في ظرف دولي معاكس تقريباً لذاك الذي جرت فيه أوسلو؛ في ظرفٍ يتراجع فيه الوزن الأمريكي وتتعاظم الضرورة الأمريكية بالانكفاء إلى الداخل، في ظل تصاعد الوزن النوعي لخصوم الولايات المتحدة، روسيا والصين بشكلٍ أساس، مما يعني انهيار النظام الاستعماري الجديد، بما في ذلك الانسحاب الأمريكي من المنطقة، والخروج من «قضية الشرق الأوسط». وبطبيعة الحال، وعلى النهج ذاته الذي سارت عليه القوى الاستعمارية السابقة، فإن من المنطقي بالنسبة لواشنطن أن تعمل على خلق أكثر البيئات الجاهزة للاشتعال في المناطق التي ستنسحب منها سياسياً وعسكرياً.
وإن كانت النتائج التي وضعتها القوى الاستعمارية في مفاصل سابقة قد لاقت النجاح، فذلك بسبب أنَّ طبيعة الانتقال كانت تجري من نظام استعماري إلى نظام استعماري آخر أكثر تطوراً. أما اليوم، فإن الوزن الذي ينخفض لدى القوة الاستعمارية الأمريكية وحلفائها، يقابله تصاعد في وزن قوى دولية ترفع السلام منهجاً لعملها الدولي، وإطفاء بؤر التوتر سلاحاً في وجه من يشعلها. وهو ما يدفع للتفاؤل وللقول إن الأهداف الأمريكية المتوخَّاة من صفقة القرن محكومة بالفشل مسبقاً.

«الشعوب- الأنظمة»

لا بدَّ من الإشارة إلى عاملين اثنين، الأول هو أن السلاح الذي تقاتل به الدول الصاعدة اليوم فيما يرتبط بالقضية الفلسطينية هو العمل على تطبيق قرارات مجلس الأمن التي تم اعتمادها سابقاً في هذا الشأن، وهو ما يسمح بالاستنتاج بأن أحد الأهداف الإضافية لواشنطن من صفقة القرن يتمثل في عرقلة تطبيق هذه القرارات لاحقاً، وهو ما يعكس مقدار التخوف الأمريكي إزاء مستوى جدّية القوى الدولية الجديدة الصاعدة في حل هذه القضية حلاًّ يستند للقوانين الدولية.
أما الثاني، فهو أن مواقف بعض الدول العربية من الصفقة، والتي تماهى معظمها خلال الاجتماع الأخير للجامعة العربية مع الموقف الأمريكي داعيةً الفلسطينيين إلى «النظر في الخطة ودراسة نقاطها والتفاوض حولها»، هذا الموقف من شأنه أن يعيد إلى الواجهة ثنائية «الشعوب – الأنظمة»، بكل ما يعنيه هذا من اشتداد التناقض بين قطبي هذه الثنائية على مختلف المستويات الاقتصادية الاجتماعية والسياسية والوطنية.

الدعم المشروط بالتوازنات

ثم إن هنالك الكثير من الأسئلة حول الصفقة لم تتم الإجابة عنها بعد: إذا كانت الصفقة التي يتم الحديث عنها هي في العمق «رشوة اقتصادية» للفلسطينيين للتخلي عن القضية، فمن من الدول لديه القدرة على دفع هذه الفاتورة؟ وإذا كانت الإجابة هي الخليج، فهل نجحت الأموال الخليجية في السابق في أن تغير مسار الأحداث جذرياً في عدد من دول المنطقة؟ ثم هل الواقع الحالي الداخلي الذي يحمل بذور الانفجار في أية لحظة في الدول الخليجية يسمح بلعب مثل هذا الدور؟ هذا ولم نتحدث بعد عن زيف الافتراض بأن الفلسطينيين قابلون للمساومة على أرضهم.
ما يدعو للتفكر هنا، هو أنّ الكيان الصهيوني، وبالرغم من كل «الهِبات» الأمريكية التي قدمتها واشنطن سابقاً (من اعتراف ترامب بالقدس عاصمة للعدو، إلى الاعتراف بسيادة العدو على الجولان السوري المحتل، وصولاً إلى صفقة القرن)، رغم هذه المساعدات الأمريكية كلَّها، إلّا أن الكيان يعيش أعمق أزمة وجودية، وأكثر لحظاته قلقاً منذ نشوئه. وذلك لعدد من الأسباب، أهمها أنَّ الكيان يدرك أن الدعم المالي الأمريكي الواسع في طريقه نحو الانخفاض، وأنَّ الدعم السياسي، مهما لمع بريقه، سيظل تطبيقه مرهوناً بموازين القوى الدولية في نهاية المطاف.

معلومات إضافية

العدد رقم:
951
آخر تعديل على الأربعاء, 05 شباط/فبراير 2020 13:58