«صفقة القرن» والثقب الأسود الأمريكي!

«صفقة القرن» والثقب الأسود الأمريكي!

يُعرّف الفيزيائيون الثقوب السوداء بشكل مبسط بأنها مناطق ضمن الزمان والمكان لها كتلة كبيرة جداً ومضغوطة ضمن حجم صغير. وهي لذلك، تتمتع بجاذبية هائلة بحيث تبتلع كلَّ ما يقترب منها ضمن حدودِ تأثيرٍ يسمونها (أفق الحدث/ Event Horizon)

رغم وجود انتقادات كثيرة لهذا الطرح الذي تعود أصوله إلى نسبية أنشتاين العامة، إلا أنّ ما يهمنا هنا هو استخدامه كوسيلة لتبسيط الغايات الأمريكية مما يسمى صفقة القرن، التي يمكن لها أن تلعب دور مركز ثُقب أسود يكون أفق حدثه، أو حدود تأثيره هي منطقة الشرق الأوسط بأكملها...

نظرة عامة

إذا حاولنا تقصي مفردات النشاط الأمريكي في منطقتنا بشكل سريع، لوجدنا بينها:
في العراق، يجري عملٌ محمومٌ لقسم العراقيين بشكل حاد على رؤوس ثالوث غير مقدس (سني- شيعي- كردي)، مع إيحاءات كاذبة باستعداد أمريكي لتبني التقسيم الفعلي، بالتوازي مع تعمُّق الأزمات الاقتصادية والمعيشية التي تدفع بدورها نحو تنامي الحركة الشعبية دون وجود أفق واضح لأشكال تنظيمها، الأمر الذي من شأنه رفع احتمالات تخريبها وإدمائها وتقسيمها عمودياً بين القوى التقليدية المركّبة والمصممة أمريكياً من حيث الأساس ابتداءً من الاحتلال 2003.
في تركيا، فقد الأمريكي منذ فترة غير قليلة أي أملٍ في استعادتها للعب الدور التقليدي لها طوال قرن مضى، كقاعدة متقدمة للناتو، وكعدو لشعوب المنطقة، وكأداة أمريكية طيّعة؛ إذ إنّ التحالف التركي الروسي، ومن خلفه فضاء تحالفي أوسع يضم الصين وإيران وآخرين، بات المحدد للسمت الأساس للسياسات التركية، وذلك رغم التخبط الواضح الذي ما يزال قائماً، والذي– رغم شدته- لا يمكنه أنْ يضلل واشنطن عن حقيقة واضحة هي أنها خسرت تركيا بالمعنى الإستراتيجي. كلّ هذا يدفعها باتجاه العمل على حرق تركيا من الداخل والخارج، سواء عبر محاولات التلاعب بالقضية الكردية وباستثارة الشوفينية القومية المضادة، التي لا تزال داءً يصعب علاجه في تركيا، أو عبر الضغوط الاقتصادية ومحاولات التخريب والانقلاب الداخلية، وكذلك عبر استخدام بعض الأوربيين في تطبيق مزيد من الضغط على تركيا.
في إيران، تستمر الولايات المتحدة بتطبيق سياسات الضغط الأقصى، وبالوسائل المختلفة، لعل وعسى تصل الأمور حد الانهيار الذاتي، سواء تم ذلك بأدوات الثورات الملونة أو بغيرها.
في لبنان، تستمر الأزمة الاقتصادية بالتعمق، ومعها الأزمات المالية والسياسية، وتجري محاولات حثيثة لقسم اللبنانيين ضمن اصطفاف وهمي على شاكلة 8 و14 آذار، ولكن مع تحديثات وتعديلات تقتضيها التطورات الجديدة، وصولاً إلى حالة من الفوضى تبتلع الحركة الشعبية الوليدة وتحول لبنان إلى خاصرة رخوة إضافية لسورية، وتقلل من مخاطر لبنان وقوى مقاومته الكامنة على الكيان الصهيوني.
في مصر، تتفاقم الأزمات المعيشية وما يرافقها من توتر اجتماعي وأمني وسياسي، ناهيك عن الأخطار والتوترات التي تلفها من الجوانب المختلفة، سواء في ليبيا أو في السودان. الأمر الذي يجعل من الأوضاع الداخلية فيها قنبلة موقوتة وقابلة للانفجار في أية لحظة.
في سورية، يستمر المتشددون في النظام والمعارضة في ممارسة محاولاتهم لتخريب وتعطيل العملية السياسية، بالتوازي مع انحدار الوضع الاقتصادي بصورة كارثية بتأثير العقوبات من جهة، والنشاط المحموم للفساد الكبير المتغلغل حتى النخاع في بنية جهاز الدولة، نشاطٌ يبدو وكأنه يمتص كل ما بقي من ماء الحياة في عروق سورية وشعبها، ويلفظه نحو الخارج أموالاً وثرواتٍ مهربة بالدولار، كما لو أنّه يجهز نفسه لتركها في حالٍ من الخراب لا قيامة بعده. وبالتوازي وبالتكافل، نرى العمل الأمريكي سواء عبر العقوبات، أو عبر استمرار العمل على عزل الكرد، أو عبر محاولات حماية النصرة التي باتت علنية، وعبّر عنها جيمس جيفري مؤخراً، وهو المبعوث الأمريكي الخاص لسورية بقوله: «الولايات المتحدة تقر بوجود إرهابيين في إدلب، وهناك مجموعة كبيرة من النصرة وهيئة تحرير الشام وهي متفرعة من القاعدة، وتعتبر منظمة إرهابية، ولكنها تركز بشكل أساس على قتال النظام السوري وروسيا وهم يدّعون أنهم وطنيون ومقاتلون معارضون وليسوا إرهابيين ونحن لم نقبل هذا الادعاء بعد، ولكن لم نر أنهم شكلوا تهديداً دولياً منذ فترة».
في السعودية، لا تكف الأزمات عن التوالد، سواء تلك الناجمة عن السلوك السعودي الخارجي، (في حرب اليمن، وفي العداء لإيران وفي الخلاف مع تركيا وغيرها)، أو عن الوضع الاقتصادي الداخلي الذي يعاني من تراجع مستمر بفعل الإنفاق المبالغ به على السلاح وغيره من النشاطات المتعلقة بالنشاط الخارجي أكثر منه في إطار التنمية الداخلية.

دور الأنظمة والحركات الشعبية

يحق للقارئ أنْ يسائل الكاتب، بعد العرض المختزل أعلاه، عما يبدو أنه تقليل من مسؤولية أنظمة المنطقة عن الخراب الحاصل. والحقّ أننا لا نحاول التقليل من مسؤولية هذه الأنظمة إطلاقاً، ولسنا من عشاق نظريات المؤامرة بأشكالها الهزلية التي تستخدمها الأنظمة نفسها.
كلمة السر برأينا هي الفضاء السياسي القديم؛ إذ جرت صياغة الأنظمة السائدة في منطقتنا على العموم، منذ النصف الثاني من القرن العشرين بحيث عبّرت عن توازن دولي محدد كانت الغلبة فيه تتعاظم لمصلحة الأمريكي شيئاً فشيئاً. بل وربما أبعد من ذلك، فقد وضعت البنية الأساسية لهذه الأنظمة ابتداءً من سايكس بيكو... بكلام آخر، فإننا لا نرى فروقات كبيرة بين بنية الأنظمة السائدة في منطقتنا، وأياً كانت الشعارات التي ترفعها، وبين المركز الغربي؛ ولعل أفضل البراهين على ذلك، وقبل أي حديث عن المواقف الوطنية العامة، هو البنية الاقتصادية غير المنتجة والفاسدة التي كرّستها تلك الأنظمة، والتي حرمت الشعوب والدول من أية تنمية حقيقية، وأبقتها نهباً للغرب ضمن علاقات التبادل اللامتكافئ.
بكلام أكثر وضوحاً، فإنّ الأنظمة السائدة في منطقتنا، الفضاء السياسي القديم السائد في منطقتنا، ليس في جوهره إلا امتداداً وذيلاً للمركز الاستعماري الغربي بأطواره القديمة والحديثة وما بعد الحديثة...
وبهذا المعنى بالذات، فإنّ الحركات الشعبية هي الأمل الأساس والمفتاح الأساس لتكريم الفضاء السياسي القديم بدفنه، وبناء الفضاء السياسي الجديد، ولكنها عملية تاريخية معقدة تمر كما نرى ونشاهد عبر مخاضات وآلام جسيمة لا تخلو من ثورات مضادة ومحاولات امتطاء وتقسيم مستمر لتلك الحركات.

الانسحاب الأمريكي والثقب الأسود

بالعودة إلى المحددات الكبرى لخط السير العالمي في عصرنا الراهن، والمحكومة بالأساس إلى المؤشرات الاقتصادية الكبرى، ومن ثم العسكرية والسياسية، فإنّ الواضح كالشمس هو أنّ الانكفاء الأمريكي نحو الداخل بات ضرورة وجودية، لا مفرَّ منها للولايات المتحدة. ولكن في السياق نفسه، فإنّ انسحاباً سريعاً وإخلاءً للمواقع التي سيطر عليها الغرب تاريخياً، والولايات المتحدة خلال القرن الماضي، لن يفعل سوى تقديم أدوات إضافية للخصوم الصاعدين لتسريع عملية إزاحة الدولار عن عرشه العالمي.
ضمن هذه اللوحة، فإنّ الولايات المتحدة تعمل على تصنيع مجموعة من الثقوب السوداء في منطقتنا، ثقوب من شأنها ابتلاع أية فرص لإنهاء الأزمات وإرساء الاستقرار، الأمر الذي من شأنه استنزاف الخصوم وإرجاء مسألة ترجمة التوازن الدولي الجديد ذي الأساس الاقتصادي بوقائع جديدة سياسية.
نرى تركيزاً أمريكياً على استعادة وتعظيم الفوالق القومية والطائفية في المنطقة بأسرها، بالتوازي مع إعادة بعث الروح في داعش، ومحاولة منع إنهاء النصرة. وإلى جانب ذلك كلّه نرى صفقة القرن التي من شأنها في حسابات الأمريكي أن تتحول إلى أكبر الثقوب السوداء في المنطقة بأسرها، بحيث تخلق فوضى شاملة تُغذي عناصر الفوضى الأخرى في المنطقة والتي بات من الواضح أنّ الأمريكي لن يكون قادراً على متابعة تغذيتها في الفترة القادمة بحكم انكفائه الإجباري عن الأرض.

سورية: الثقب الأبيض

على عكس الثقب الأسود الذي يبتلع ضمن حدود معينة كل ما يحيط به، فإنّ الثقب الأبيض ينبذ ضمن حدود معينة كل ما يحيط به، وينبذ الضوء أيضاً، وبالمجاز، يمكن لنا القول إنه ينشر الضوء في البقاع المظلمة المحيطة به.
بالنظر إلى طبيعة الأزمات المنتشرة في إقليمنا، فإنّ سورية، ورغم المأساة الكبرى التي تعيشها، ورغم كم التعقيد الهائل فيها، إلّا أنها تمتاز بأنّها في قلب الثقب الأسود من جهة، ولكنها من جهة أخرى المرشح الأول للخروج منه؛ فالناظر إلى طبيعة الدول المأزومة بشدة في محيطنا وخاصة العراق ولبنان، مضطر أن يقف عند حقيقة أنّ هاتين (الدولتين)، قد فقدتا منذ زمن الأساس والبنية التي يمكن أن تقوم عليها دولة مستقرة، بل وأسوأ من ذلك فقد تم تكريس الانقسام الطائفي والقومي والفساد السياسي بشكل قانوني في دساتير وأنظمة هاتين الدولتين، حتى بات من الصعب تخيل انتفاضة وطنية شاملة تقلب الموازين بشكل سريع.
بالمقابل، ما يزال في سورية، حتى الآن، ما يمكن البناء عليه، ولكن هذا الباقي لن يستمر طويلاً في حال استمرت الأزمة واستمر تفاقمها. ما يعني أنّ حلَّ الأزمة السورية بشكل فوري، لم يعد ضرورة وجودية لسورية نفسها فحسب، كما بيّنت قاسيون في مواضع عديدة خلال السنوات، والأشهر الماضية بشكل خاص، بل وبات حلها ضرورة وجودية لوقف دومينو الفوضى الشاملة في المنطقة بأسرها.
نقطة إشعاع واحدة، نموذج صحي واحد، سيكون كافياً لطبع المنطقة بأسرها بطابعه؛ التوازن الدولي يسمح، طاقة الحركة الشعبية الكامنة تسمح... التنفيذ ينبغي أن يكون ضمن آجال قريبة!

معلومات إضافية

العدد رقم:
951
آخر تعديل على الأربعاء, 05 شباط/فبراير 2020 13:57