تركيا والموقف منها... بين الأحلام والاستحقاقات!

تركيا والموقف منها... بين الأحلام والاستحقاقات!

على اختلاف تموضعهم واصطفافهم في المشهد السوري، يتفق المتشددون في مختلف الأطراف السورية على مهاجمة مسار «آستانا» عبر تضخيم الخلافات القائمة بين الثلاثي «روسيا، وتركيا، وإيران». وواحدة من المحاولات التي تهدف إلى مهاجمة هذا المسار تتمثل في الهجوم المكثف على الدور التركي على نحوٍ يتجاهل التبدلات الجارية في اصطفاف تركيا وحساباتها الإستراتيجية.

مما لا شك فيه أن الدور التركي لا يزال مشوشاً ومتناقضاً في مفاصل عديدة، بل ويتأرجح بين الأحلام الطورانية لملء فراغات المنطقة بعد التراجع العام للغرب، وبين فهم طبيعة الوضع الدولي الجديد، ومحاولة الالتحاق بالقوى الصاعدة التي تبني تفاهماتها على أساس احترام القانون الدولي وحق الشعوب في تقرير مصيرها. هذا التشوش واضح في المواقف التركية التي يختلط فيها الاتجاهان. ولعل العدوان التركي على الشمال السوري أحد المحطات الواضحة في هذا التخبط الذي تشير الموازين والاستحقاقات الدولية إلى أنه لن يطول...
يرى البعض أن من المغالاة التعويل على اصطفاف تركيا إلى جانب الدول الصاعدة (روسيا، الصين...)، وذلك بالنظر إلى الروابط التركية مع الغرب والتي تمتد إلى عقودٍ طويلة خلت. ويذهب بعضٌ آخر للتأكيد على أن تركيا لن تتحمل تبعات «نقل البندقية من كتف إلى آخر»، ذلك أن الهيمنة وأدوات التحكم الغربية قادرة على تهديد تركيا جدياً في حال فكّرت بتبديل خياراتها الإستراتيجية. وهنا لا بد من التأكيد على ثلاث حقائق أساسية، أولاً، من الصحيح أن الانعطاف التركي من شأنه أن يحمل مخاطر جمة لأنقرة، لكن بقاءها في الدائرة الغربية ينطوي على مخاطر أكثر وضوحاً، تصل إلى حد تفتيت البلاد وتهديد وحدتها. ثانياً، ذاقت تركيا من الغرب ضربات كادت أن تكون حاسمة لولا تدخل «الحلفاء الجدد لتركيا» إن صح التعبير، ولنا في محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016 مثال جلي على ذلك. ثالثاً، منذ فشل الانقلاب السياسي، رزحت تركيا تحت وطأة التضييق الاقتصادي الغربي ضدها، ورغم المخاطر الكثيرة التي يحملها هذا التضييق، إلّا أنه فتح باب الفرصة لأنقرة لتعميق ارتباطها الاقتصادي مع الدول الصاعدة، ودفع خيار حسم التوجهات الإستراتيجية لغير المصلحة الأمريكية ليغدو في مقدمة خيارات تركيا.

طريق تركيا نحو «آستانا»

تحولت تركيا بعد الحرب العالمية الثانية إلى نقطة ارتكاز غربية في المنطقة، فإثر انضمامها إلى حلف الناتو في عام 1952 قدمت أنقرة خدمات كبرى للمنظومة الغربية آملة في ذلك الحصول على اعتراف غربي بكونها عضواً فاعلاً في هذه المنظومة، إلا أن المفارقة تكمن بأنه ورغم الانصياع الذي أبدته البلاد إزاء الرغبات الأمريكية والأوروبية، بقيت أبواب هذه المنظومة مغلقة بشكلٍ محكم في وجه أنقرة، ولا سيما إزاء رغبتها الجامحة في الانضمام للاتحاد الأوروبي.
على هذه الأرضية، حاولت تركيا أن تناور؛ فبعد التجاهل الغربي لمطالبها، تجاوبت مع عدد من المشاريع الاقتصادية (السيل التركي مثالاً) التي لا تستطيع واشنطن أن تغفرها. وبناءً عليه، بدا واضحاً أن هنالك تبايناً بين تيارين في جهاز الدولة التركي وصل بأحدهما، وهو الذي يصر على مناصرة الغرب، أن يحاول قطع الطريق على تطور العلاقات التركية الروسية عبر إسقاط الطائرة الروسية أواخر العام 2015، ليلي ذلك اعتذار الرئيس التركي عن الحادث، وإعادة تطبيع العلاقات مع روسيا، الخطوة التي قوبلت غربياً بمحاولة الانقلاب عام 2016 وما نجم عنها من مواجهة تركية علنية مع الغرب، وتطوير العلاقات مع روسيا بشكلٍ كبير وصل إلى حد تشكيل ترويكا «آستانا».

التكامل والتعطيل

إن النظر إلى ثلاثي آستانا بوصفه تفاهماً مؤقتاً يقتصر موضوعه على الملف السوري هو رؤية قاصرة بالضرورة، حيث إن اهتمامات آستانا ليست سورية فحسب، بل يُضاف إليها المنطقة بأكملها وكذلك آسيا الوسطى بكل ما يحمله هذا النطاق الجغرافي من أزمات ومشاكل تحتاج إلى حلولٍ عاجلة لا تقبل التأجيل. وقد ارتقت العلاقة بين ثلاثي آستانا منذ زمن من مرحلة التفاهم إلى مرحلة التحالف. وهذا لا يعني إنكار أن هنالك تباينات عدّة بين الدول المشاركة فيه، بل يعني أن حجم التقاطعات بين هذه الدول آخذ بالاتساع دائماً، وأن هذه الدول قد وجدت صيغة فيما بينها لحل التباينات الموجودة أو التفاهم على إدارتها بالحد الأدنى. ولدى هذا الثلاثي عدد واسع من الملفات التي يحتاج حلها إلى تنسيق الجهود المشتركة، ولا سيما أننا أمام طورٍ جديد من تشكيل منظومة إقليمية جديدة تتناسب مع تغيرات موازين القوى الدولية.
وعلى أساس ضرورة حل التباينات القائمة بين دول المنطقة، يتخذ مسار آستانا نهج الحوار وتقريب وجهات النظر بين الأطراف المتخاصمين، ومن هنا يمكن فهم المحاولات الروسية والإيرانية التي جرت بهدف تطبيع العلاقات بين سورية وتركيا، هذا التطبيع الذي لا يهدف إلى حل الملف السوري فحسب، بل إلى انتشال المنطقة من الرسمة الإقليمية القديمة التي سمحت للأمريكي بأدوات تحكم عالية فيها، والدفع في اتجاه واقع إقليمي جديد يقوم على التكامل بين دول المنطقة، والذي لا بد له أن يمر أولاً بمرحلة تطبيع العلاقات وحلحلة الخلافات الحاضرة.
في مقابل هذا الواقع، لا يزال هنالك بين الأطراف السورية المتشددة، وعلى طرفي المتراس، من يراهن على العداء مع تركيا كوسيلة لتعطيل حلِّ الملف السوري، ليس ذلك فحسب، بل ويراهن على تعطيل إنجاز الهدف النوعي الذي تضعه ترويكا آستانا نصب أعينها، أي تعطيل الوصول إلى الواقع الإقليمي الجديد. والمشكلة أن العرقلة في هذا التفصيل بالذات تصبح مكافئة للإبقاء على المنظومة الإقليمية التي يهيمن عليها الغرب تاريخياً، إذ ليس ثمة الكثير من الخيارات: إما منظومة جديدة، وإما الإبقاء على المنظومة القائمة التي عانت منها شعوب المنطقة ويلات وحروب وتقسيمات، ومن يراهن على الخيار الغربي يضع نفسه بنفسه في مواجهة الجديد الصاعد!

معلومات إضافية

العدد رقم:
946
آخر تعديل على الإثنين, 30 كانون1/ديسمبر 2019 13:37