هل أعلنت منظمة العفو الدولية تمردها؟

هل أعلنت منظمة العفو الدولية تمردها؟

متغير جديد يسجل في خانة تراجع وزن الولايات المتحدة الأمريكية، مع تعرية وفضح لجزءٍ من دورها في الأزمة السورية، والحرب التي تدور رحاها على أرضنا، لكن هذه المرة على يد إحدى المنظمات الدولية، التي كانت، وحتى الأمس القريب، تعمل بوصايتها، وتُسبح بحمدها، مجمّلّة قباحتها.

فقد أعلنت منظمة العفو الدولية، في تقرير جديد لها مطلع حزيران الحالي، بعنوان: «حرب الإبادة: خسائر فادحة في صفوف المدنيين في مدينة الرقَّة في سورية»، أن: «مدينة الرقَّة تحولت إلى أنقاض، والمدنيون يعانون أهوال الدمار، في أعقاب «حرب الإبادة» التي يشنُّها التحالف بقيادة الولايات المتحدة».
وحسب التقرير فإن المنظمة: «أجرت تحقيقات ميدانية في المدينة المُدمَّرة»، ومما ورد فيه أن: «قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة أطلقت أعداداً مهولة من الأسلحة المتفجِّرة غير الدقيقة على مناطق مأهولة بالسكان المدنيين_ حتى القنابل الدقيقة التي ألقتها قوات التحالف أدت إلى سقوط أعداد هائلة من القتلى والمصابين في صفوف المدنيين_ قُتل مئات المدنيين، ثم سُمح لمقاتلي «الدولة الإسلامية» بمغادرة المدينة».
تفاصيل جُرمية
تم استهلال التقرير بمقدمة جاء فيها: «أدت العملية العسكرية التي شنتها قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية على مدى أربعة أشهر، من أجل إخراج الجماعة المسلحة التي تطلق على نفسها اسم تنظيم «الدولة الإسلامية» من مدينة الرقة السورية، التي اتخذها التنظيم عاصمة له، إلى قتل مئات المدنيين وإصابة كثيرين آخرين، فضلاً عن تدمير معظم المدينة. وفي غمار هذه العملية، التي استمرت من حزيران إلى تشرين الأول 2017، تحولت البيوت والمباني الخاصة والعامة والبنى التحتية إلى أنقاض، أو أصيبت بأضرار جسيمة لم يعد يجدي معها أي إصلاح».
هذه المقدمة تحمل في متنها إدانة واضحة للولايات المتحدة والتحالف الذي تقوده، كما تُحمل هؤلاء مسؤولية تدمير معظم المدينة.
تقصٍّ ميداني
بحسب التقرير فقد: «سافر باحثو منظمة العفو الدولية إلى مدينة الرقة في شباط 2018، وأمضوا هناك أسبوعين، زاروا خلالهما 42 موقعاً تعرضت لضربات، وأجروا مقابلات مع 112 من الشهود والناجين، وحللت المنظمة صوراً ملتقطة بالأقمار الاصطناعية، كما راجعت مواد أخرى متاحة للاطلاع العام، ويوثق التقرير الحالي محنة أربع عائلات، ترمز حالاتها لأنماط أوسع».
ويتابع التقرير: «تُقدم هذه الحالات أدلة جلية على أن عدداً من الهجمات التي شنها التحالف، وأسفرت عن قتل وإصابة مدنيين تعد انتهاكاً للقانون الدولي الإنساني... ولم تولِ قوات التحالف الاعتبار الكافي لوجود المدنيين في المدينة».
وقد سرد التقرير الشهادات والمقابلات، التي أجراها باحثو المنظمة مع الشهود من الناجين، والتي كانت تحمل الكثير من المآسي والآلام والويلات.
شهادات الإدانة
قالت منيرة حشيش، وهي إحدى أفراد عائلة حشيش التي فقدت 18 من أفرادها، 9 في ضربة جوية من قوات التحالف، و 7 ، بلغم كان تنظيم داعش قد زرعه، وهم يحاولون الهرب، وبقذيفتي هاون: «من بقي في المدينة مات، ومن حاول الفرار مات أيضاً، ولم يكن بوسعنا أن ندفع أموالاً للمهربين، كنا محاصرين».
وتضيف: «كنا قد حاولنا أن نهرب من المدينة، ولكننا لم نستطع تدبر الأمر، وبعد حوالي خمسة أيام، حاولنا الهرب عبر النهر، ولكن أفراد داعش أمسكونا، وضربوا الرجال ضرباً شديداً، واحتجزوني مع نساء أخريات لمدة يوم ثم سمحوا لنا بالانصراف».
أما عائلة بدران فقد كانت مثالاً آخر عن المحنة التي عاشها المدنيون خلال الحملة العسكرية، فقد قتل 39 من أفرادها، بالإضافة إلى 10 من الجيران، وذلك في 4 ضربات جوية منفصلة شنها التحالف.
وقد أسفرت سلسلة من الضربات الجوية لقوات التحالف عن تدمير معظم المباني في حارة البدو، وكان من بين الذين لقوا مصرعهم في القصف محمد الفياض و 15 من أفراد العائلة والجيران، وكان محمد الفياض، أبو يوسف، وهو في الثمانينات من عمره، قد رفض مغادرة منزله الذي عاش فيه طوال 50 عاماً.
التواطؤ مع «داعش»
مما ورد في التقرير أيضاً: «لم يوضح التحالف حتى الآن لماذا استمر في شن ضربات جوية أسفرت عن مقتل هذا العدد الكبير من المدنيين، بينما كان يجري التفاوض بشأن اتفاق يمنح مقاتلي تنظيم «داعش» حصانة من المساءلة وممراً آمناً للخروج من المدينة، وكان كثير من الناجين من ضربات التحالف، ممن التقت بهم منظمة العفو الدولية، يتساءلون عن السبب الذي دفع قوات التحالف إلى تدمير مدينة بأكملها، وقتل هذا العدد الكبير من المدنيين، من خلال عمليات قصف يفترض أنها كانت تستهدف مقاتلي تنظيم «داعش»، لكي ينتهي الأمر بالسماح لهؤلاء المقاتلين بالخروج من المدينة بسلام دون أن يلحق بهم أذى».
نتائج وتوصيات
توصل التقرير إلى جملة من النتائج والتوصيات، نورد منها:
«تبين أن الضربات الجوية التي يعرضها التقرير الحالي، إما عشوائية أو غير متناسبة أو الاثنين معاً، ومن ثم فهي غير مشروعة، ويحتمل أن تشكل جرائم حرب».
«دول العالم تتحمل المسؤولية عن انتهاكات القانون الدولي الإنساني، ويقع على عاتقها واجب التحقيق في الانتهاكات، وتوفير الإنصاف للضحايا».
«الإقرار علناً بمدى وفداحة إزهاق أرواح مدنيين وتدمير ممتلكات وسبل عيش من جراء الضربات الجوية لقوات التحالف».
«إنشاء الآلية اللازمة لتقديم التعويض الكامل على وجه السرعة لضحايا الانتهاكات وعائلاتهم، بما في ذلك التعويض المالي، ورد الحقوق إلى أصحابها، وإعادة التأهيل والترضية».
«ضمان توفير الأمن والمأوى والخدمات لمن شردوا من ديارهم بسبب النزاع في الرقة، وذلك لحين تمكنهم من العودة طواعية وبأمان إلى ديارهم وإعالة أنفسهم».
قريباً من الواقع بعيداً عن الأوهام
ما من شك أن التقرير سلط الضوء على بعض الانتهاكات التي تعرض لها أبناء مدينة الرقة السورية، كما يمكن اعتباره وثيقة إدانة للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، خلال العمليات العسكرية المنفذة على المدينة السورية بذريعة محاربة تنظيم «داعش» الإرهابي، من خلال المقدمة والمتن والخاتمة، خاصة مع شهادة الشهود.
إلا أنه في المقابل، يُجيّر هذه الإدانة على أنها شُبهة واجبة التأكد والتحقق، ليس ذلك فقط، بل ورد بمتنه: «على التحالف أن يبادر بإنشاء آلية مستقلة ونزيهة تتولى إجراء تحقيقات فعالة في الأنباء الموثقة عن وقوع انتهاكات للقانون الدولي الإنساني».
أي: أن التحالف هو الخصم والحكم بالنتيجة! فعن أية نزاهة يتم الحديث هنا؟
لنأت على تأكيد المؤكد، بحسب ما ورد في التقرير حول علاقة التحالف الوثيقة مع تنظيم «داعش» الإرهابي، وكيف يقوم هذا التحالف بفتح الممرات الآمنة لعناصر هذا التنظيم، ضامناً سلامتهم وأمنهم وسهولة تنقلهم، وهو ما سبق أن جرى الحديث عنه وتعريته مراراً وتكراراً.
النقطة الأهم التي يجب التوقف عندها والتأكيد عليها، هي: أن العمليات العسكرية كافة التي خاضها التحالف بالقيادة الأمريكية في سورية تعتبر مدانة، وتصل إلى كونها جرائم حرب، فالأمر ليس مقتصراً على مدينة الرقة، وعلى بعض الضربات الجوية التي قام بها هذا التحالف فيها فقط، فما حل بمدينة دير الزور ومدينة البوكمال، وغيرها من المدن والبلدات والقرى السورية، من تدمير ممنهج عبر الضربات الجوية، التي لم تُبقِ ولم تَذِر، تعتبر دليلاً فاقعاً على الجرائم التي ارتكبها هذا التحالف بحق سورية والسوريين، ناهيك عن كل الأدوار السياسية الأكثر إجراماً على مستوى الحرب والأزمة والكارثة الإنسانية التي ألمت بنا طيلة السنوات الماضية، والتي ما زالت تفعل فعلها يائسة من أجل عرقلة الحل السياسي، ونفخاً في الجمر المشتعل تحت رماد الأزمة قيد الانطفاء.
انفراط طوق الانصياع
في جميع الأحوال، ما يعنينا من التقرير، بالإضافة إلى أهمية ما ورد بمتنه من شهادات موثقة تعكس مقدار الإجرام الذي تعرض له السوريون، وما حل من دمار في مدينة الرقة، على أيدي «داعش» وقوات التحالف بالقيادة الأمريكية، كونه أتى من منظمة العفو الدولية، التي تُسجل لها سابقة على مستوى توجيه الإدانة، ولو سياسياً بالحد الأدنى، للولايات المتحدة وتحالفها غير المقدس، وهي التي اعتادت السير بركب هؤلاء لتنفذ إرادتهم ومشيئتهم وسياساتهم طيلة عقود طويلة.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل أعلنت منظمة العفو الدولية تمردها على الولايات المتحدة الأمريكية؟
وهل سيكون هذا التمرد مقدمة ومهمازاً لغيرها من المنظمات الدولية الأخرى، لتُعلن تمردها، وتفك عنها طوق الانصياع للرغبات والسياسات الأمريكية، أم هناك غايات أخرى لهذه الصحوة، على كل حال الأيام ستكشف كل شيء؟
وعلى العموم فإن ذلك ليس غريباً، في ظل جملة المتغيرات العاصفة التي طالت التوازن الدولي القديم بالزعامة الأمريكية وتراجعها المتتالي، والعلاقات الدولية الناشئة في ظل التوازن الدولي الجديد بالطليعة الروسية- الصينية، وما سيتبعها حكماً على مستوى العلاقة مع المنظمات الدولية من كل بد.
ننتظر لنرى.. عسى لن يكون ذلك ببعيد!