كلمة السر: الاعتماد على الذات

تتسارع الأحداث فاتحةً آفاقاً جديدةً أمام البلاد إذا أُحسن استخدامها.. ومن أهمها خلال الفترة الفاصلة منذ العدد الأخير لقاسيون، تصريح السيد الرئيس بشار الأسد خلال زيارته الأخيرة إلى كرواتيا حول اتفاق الشراكة الأوروبية، قاطعاً الشكوك باليقين منذ إعلان التريث بالتوقيع عليها الذي كان من المفروض أن يجري في 26 من الشهر الماضي.. بما يثبت أنها تلقت رصاصة الرحمة، وهو ما يستجيب للمصلحة الوطنية العليا ضمن المتغيرات الجارية في العالم في الفترة الأخيرة بتسارع كبير..

تحدثنا في الافتتاحية الماضية عن النتائج والاستنتاجات الرئيسية حول تجربة الفريق الاقتصادي بسياسته الليبرالية التي أضرت البلاد والعباد، وإذا أردنا أن ندقق أكثر، يمكن أن نضيف أن أحد مكامن قوة هذا الفريق الأساسية لم تكن في الداخل بحيث كوّن معارضة واسعة لسياساته، وإنما كانت قوته الرئيسية في الدعم الدولي تحديداً، الذي تلقاه عن طريق البرامج والاقتراحات والأفكار التي كانت ترعاها مؤسسات دولية هامة، مما خلق وهماً أن لديه برامج وحلولاً لتجنيب البلاد أزمات في ظل اختلال ميزان القوى الدولي في العقدين الأخيرين، وقد تبين في الواقع أن كل هذا الدعم اللوجستي لم يكن إلاّ كلاماً في كلام، يضع هدفه الرئيسي إضعاف بنى الدولة والمجتمع للوصول إلى هدف استراتيجي، وهو إخراج سورية من دائرة الصراع مع المخططات الأمريكية- الصهيونية في المنطقة تحت وطأة الوضع الداخلي والتعقيدات اللامتناهية التي تفضي إليها هذه السياسات في نهاية المطاف..

واليوم إذا كانت تلك القوى الحية في المجتمع والدولة تريد أن تلعب دورها لاحقاً، كما لعبته في الفترة السابقة في مواجهة سياسات الفريق الاقتصادي ليس فقط اقتصادياً، فيترتب عليها مسؤوليات إضافية، أهمها صياغة الرؤية والأفكار والاقتراحات والبرامج الضرورية لمسح آثار سياسات الليبرالية الاقتصادية، والانطلاق الجدي والحقيقي نحو بناء سورية القوية اقتصادياً بمعنى الكلمة، كي تتحول هذه القوة إلى حامل فعلي للسياسات العامة، ابتداءً من الاجتماعية وصولاً إلى الإقليمية منها، بما يتناسب مع حجم ودور سورية الجغرافي والتاريخي..

إن مفتاح هذه السياسات وكلمة السر لها هي الاعتماد على الذات، والاعتماد على الذات لا يعني بتاتاً الانغلاق عن الخارج، وإنما يعني فقط تهيئة أفضل الظروف للتعامل معه اقتصادياً وسياسياً..
ففي ظل الأزمة العالمية العاصفة تحاول كل الأطراف العالمية والإقليمية تخفيف وطأة آثار هذه الأزمة في داخلها عبر الحصول على مكاسب في الخارج، في عالم تتغير إحداثياته وتوازنات القوى فيه بسرعة كبيرة.. لذلك فالاستنتاج ببساطة هو: الأقوى داخلياً باقتصاده وبتماسك مجتمعه، يمكن أن يحصل على أفضل النتائج خارجياً، والعكس صحيح.. فالأضعف داخلياً يكون عرضةً للتراجع والتنازل أمام الخارج اقتصادياً وسياسياً..

إن عامل القوة الحقيقي داخلياً، هو تأمين موارد النمو العالي مع أعمق عدالة اجتماعية، وقد بينت التجربة السابقة أن التعويل على الموارد الخارجية لتأمين هذا الهدف هو قبض للريح.. كما تبين وقائع اليوم إضافةً إلى ذلك، استحالة التعويل على الموارد الخارجية في ظل الأزمة الرأسمالية العظمى.. ويبقى الحل الوحيد هو الاعتماد على الذات..
وفي هذا المجال لسورية تجربة فريدة من نوعها وناجحة، فأثناء الحصار الاقتصادي العالمي في ثمانينيات القرن الماضي، استطاعت الخروج منه بنجاح عبر الاعتماد على الذات، وحققت أكبر نجاحاتها في تلك الفترة والمستمرة في تأثيرها حتى اليوم، من خلال تأمين الأمن الغذائي..
وكانت إحدى نقاط العلاّم خلال تلك الفترة مؤتمر الإبداع والاعتماد على الذات الذي نظمه اتحاد نقابات العمال، والذي يمكن اعتبار وثائقه مرجعاً حتى يومنا هذا..
واليوم، ألاّ يمكن استعادة وتجديد هذه التجربة؟ نعم إن الاعتماد على الذات يتطلب الإبداع في إيجاد الحلول غير المسبوقة، ولسورية كل الإمكانات في تحقيق اختراق كبير وفي كل المجالات.. وهي إن استطاعت الوصول إلى هدفها في حل أوضاع أصعب كانت فيها الإمبريالية في أوج قوتها، فإن سورية اليوم، في وضع يسمح لها بتحقيق أهداف الاعتماد على الذات بسرعة أكبر..
إن القوى الحية والنظيفة في المجتمع والدولة مطالبة بصياغة برامج بديلة لسياسات الفريق الاقتصادي، وهي قادرة على ذلك وأصبح غير مقبول منها اليوم أن تبقى فقط في إطار نقد تلك السياسات التي انهارت، والتي ستطويها صفحة النسيان قريباً.. وفي ذلك ضمانة لكرامة الوطن والمواطن.