يوسف البني يوسف البني

النازحون من الجولان إلى المخيمات من الـتهجير القسـري إلى الـتّهميش والإهـمال

تقع هضبة الجولان السورية بين نهر اليرموك من الجنوب وجبل الشيخ من الشمال، وتطل من الغرب على بحيرة طبريا ومرج الحولة في الجليل، ويفصلها عن سهل حوران وريف دمشق من الشرق وادي الرقاد القادم من الشمال بالقرب من طرنجة والمتجه جنوباً حتى مصبه في نهر اليرموك، ومن الشمال يحاذيها مجرى وادي سعار الممتد من عند سفوح جبل الشيخ مروراً ببانياس حيث ينبع نهر الأردن، وصولاً إلى أعالي وادي الرقاد، ومن الجنوب يحاذيها المجرى المتعرج لنهر اليرموك الذي يفصل بين هضبة الجولان وهضبة عجلون في الأردن.

تبعد هضبة الجولان خمسين كيلومتراً إلى الغرب من مدينة دمشق وتقدر مساحتها الإجمالية بـ1860 كم2 وتمتد على مسافة 75 كيلومتراً من الشمال إلى الجنوب، ولا يتجاوز أقصى عرض لها 27 كيلومتراً. ويُشتَق اسمها لغوياً من كلمة (أجوال)، أي البلاد التي تكثر فيها الرياح، ويثبت ذلك فعلياً في الجولان من هبوب العواصف في نهاية الصيف وبداية الخريف.

النسيج الاجتماعي

تحوي الخريطة الديموغرافية لأهالي الجولان كل أطياف النسيج الوطني والاجتماعي السوري، والقوميات المتعددة، وتنتمي الغالبية العظمى من أهالي الجولان إلى القبائل القادمة من شبة الجزيرة العربية من قبائل غسان ولخم والأزد، التي جاءت من اليمن واستقرت في الجولان قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام، وبعد ذلك بفترة استوطنت في الجولان قبائل طيء وقبيلة الفضل التي ترجع بأصولها إلى الفضل بن عباس، والمكونة من /33/ حمولة، ومن عشائرها الشراعبة، الكيار، البلاحسة، الحمدان، النبهان، الفنوص، الربيع، البداحات، الخمايسة، الشبايبة، والمحمدات وغيرها، كما استوطنت الجولان قبائل الروَلى وشمَّر وعْنِزة، وقبائل أخرى مثل النُّعَيم، الولد علي، المرزاقة، الويسية، الرفاعية، الهوادجة، المنافي، القصيرين، السبارجة، الجعاتين، الكبايرة، العجارمة وبعض العشائر الفلسطينية ذات الامتداد السوري، التي لجأت إلى الجولان عام 1948.

وبلغ عدد قرى الجولان قبل الاحتلال 164 قرية و146 مزرعة، وقع منها تحت الاحتلال 137 قرية و112 مزرعة، إضافة إلى مدينة القنيطرة.

الكارثة.. النكسة

في الخامس من حزيران عام 1967 اعتدى الكيان الصهيوني على سورية والأردن ومصر، بمناوشات نيران بعيدة دون هجومات برية، وفي 9 حزيران، وبعد نهاية المعارك في الجبهتين المصرية والأردنية، غزا الجيش الإسرائيلي هضبة الجولان السورية، واحتل 1260 كم2 من مساحة الهضبة، بما في ذلك مدينة القنيطرة، وأجبر الاحتلال جميع سكان القنيطرة على النزوح من بيوتهم، وهكذا نزح الكثير من سكان القرى الجولانية من بيوتهم ومزارعهم، ولجؤوا إلى داخل الأراضي السورية.

وقد اعترف الجيش الإسرائيلي يومئذ بطرد 70 ألف مواطن سوري من بيوتهم ومزارعهم خلال يومين، وهناك اعتراف آخر لمؤرخ اسرائيلي بطرد 80 – 90 ألف مواطن سوري جراء قصف المدفعية الإسرائيلية لقراهم في الفترة الواقعة بين 5 – 8 حزيران، واعترفت مؤرخة إسرائيلية أخرى أن إسرائيل طردت 95 ألف مواطن، وهجَّرتهم من الجولان من خلال تدمير وقصف المنازل، وسقط عشرات الشهداء، وتمت إصابة مدنيين أبرياء آخرين، وقُطِع التموين والمياه ومُنِع وصولها إلى السكان من الآبار المحيطة، وجرى تهديدهم وتعذيبهم، وحتى إعدام عدد من الأهالي على مرأى من الجميع، وطُرِدوا تاركين كروم العنب وبساتين التفاح والفاكهة، وسهول القمح والشعير، وأبقارهم وأغنامهم ومحلاتهم التجارية المليئة بالمواد الغذائية، وتركوا ملابسهم وذكرياتهم الشخصية تحت تهديد قوة سلاح الجيش الغازي. وفي مدينة القنيطرة ذاتها تم تجميع 7000 مواطن في حارة واحدة، بما يشبه معسكر اعتقال جماعي، والضغط عليهم للمغادرة، عبر تهديدهم وابتزازهم بشتى الوسائل. وتفيد مصادر أخرى أن عدد سكان الجولان بلغ قبل وقوع الاحتلال 153 ألف نسمة، وأن عدد سكان المنطقة التي احتُلَّت من الجولان عام 1967 بلغ 138 ألف نسمة، وعدد السكان الذين شردتهم وهجَّرتهم أثناء العدوان بلغ 131 ألف نسمة، وأصبح عددهم الآن يزيد عن 500 ألف نسمة.

ومن أجل محو الآثار الجغرافية والتاريخية والبشرية العربية السورية في الجولان وإزالتها عن الوجود، أقدمت إسرائيل على تدمير منهجي للقرى السورية بعد طرد سكانها. واشترك في التدمير علماء آثار إسرائيليون أجروا مسحاً شاملاً في كل قرية للتفتيش عن آثار تاريخية ومعاينتها وتزوير أصولها التاريخية، وأصدر أحد علماء الآثار الصهاينة قائمة تشمل 127 قرية وموقعاً جاهزاً للتدمير، وتم تسوية الكثير من القرى بالأرض تماماً. 

اسمٌ... ومعاناة

أُطلِق على المواطنين الذين هُجِّروا من الجولان السوري المحتل عام 1967 وصف (النازحين)، وانتشرت تجمعاتهم بين درعا وريف دمشق في تجمعات بُنيت على عجل وبشكل عشوائي، في أحياء مساكن برزة والمهاجرين ومخيم اليرموك وحي الحجر الأسود وقدسيا ودمر وميدان القاعة والزاهرة ومخيم جرمانا ومخيم الوافدين (تجمع البطيحة) الذي يحوي حوالي 30 ألف نازح.

تتنوع النشاطات الاقتصادية والتعليمية للنازحين، حيث تخرج منهم الأطباء والمحامون والصيادلة والمهندسون بنسب كبيرة، ولكن معظمهم يعمل الآن في مهن لا تتطلب تحصيلاً دراسياً، كنجارة الباطون والحدادة والبلاط، وترتفع معدلات الفقر في صفوف النازحين، ما أفضى إلى ارتفاع نسبة عمل النسوة النازحات، وارتفاع نسبة تسرُّب الأطفال من المدارس، وبالتالي ارتفاع نسبة عمالة الأطفال. إضافة إلى الأوضاع الاقتصادية السيئة التي يعيش النازحون تحت وطأتها، وتخلق أزمات اجتماعية خطيرة كالفقر والبطالة والجريمة. علماً أن عدد مدارس محافظة القنيطرة التي تتوزع على أرض محافظات دمشق وريف دمشق ودرعا والقنيطرة بلغ 304 مدارس، منها 250 مدرسة للتعليم الأساسي، بحلقتيه الأولى والثانية، و36 مدرسة للتعليم الثانوي العام، و18 مدرسة للتعليم الثانوي المهني. 

واقع لا يقلُّ تشوهاً عن الاسم

للوقوف على حقيقة الوضع المعيشي للنازحين قامت «قاسيون» بزيارة لمخيم الوافدين (تجمع البطيحة)، واطَّلعت على أحوالهم، وسألتهم عن همومهم ومشاكلهم ومطالبهم، وقد تقوم «قاسيون» بزيارة تجمعات أخرى في أعداد قادمة، بعد أن كانت لنا هذه اللقاءات:

• عجوز تجلس على حافة الرصيف، تقدمنا منها فقالت: «شو بدي أقولك يا بني؟! حياتنا في المخيم بهدلة في بهدلة، نحن الآن في فصل الشتاء والمياه لا نراها إلا كل 4 أو 5 أيام مرة، والآن أرحم من الصيف، حيث تأتينا كل 15 يوماً مرة، والناس يشترون المياه حتى للاستعمال اليومي، للغسيل والجلي، وخزان المياه أربعة براميل بـ150 ليرة سورية، ويكفي ليومين فقط، والمصروف الشهري للماء لوحده يزيد عن 2000 ليرة، ومع كل شيء نتعرض له فنحن صابرون، كل الهم والمعاناة أرحم من طردك من بيتك وأرضك، صابرون على أمل العودة يوماً بعد تحرير الجولان». تهدَّج صوتها وانهمرت الدموع من عينيها حين تمتمت متابِعة: «كم نحِنُّ إلى جولاننا الحبيب ونحلم بيوم العودة».

• أبو محمد يجلس على الطرف الآخر من الشارع، يستمتع بالشمس الدافئة في هذا اليوم الصحو، قال: «في المخيم كثير من الشوارع المزفتة حديثاً، ولكن الزفت تبعج وتحفر بعد أيام قليلة، لأنه سيء ولا توجد رقابة على تنفيذ المشاريع، ومعيشتنا هنا في المخيم صعبة، المواد الاستهلاكية والخضار غالية، ونحن أغلبنا فقراء، والكثير منا عاجزون عن تدفئة أولادهم وإطعامهم، فالمازوت أصبح حلماً للكثيرين بعد رفع سعر الليتر من 7 ليرات سورية إلى 20 ل.س، ولا يكفينا تهجير قسري وتشريد أربع وأربعين سنة، بل نواجه الكثير من المصاعب في المعيشة، وطبعاً مع المصاعب أو بدونها مازلنا نحلم بالعودة إلى ديارنا، فمسقط الرأس غالي يا بني، والوطن أغلى من الولد».

• أبو دعاس قال: «كنا في مزرعتنا نعيش بأمان وسلام على بحيرة طبريا، اعتدت إسرائيل علينا بجيشها وأعماله الإجرامية، والحرب قامت وما بترحم حدا، وهربنا من الخطر وتوجهنا إلى الجولان ولاحقنا الطيران الإسرائيلي يرعبنا بالقصف، تم تابعنا المسير حتى وصلنا إلى فيق والزوية، ووجدنا القوات الإسرائيلية على طريقنا، فهجعنا واختبأنا، وبعد ابتعاد القافلة الإسرائيلية قطعنا الطريق باتجاه الداخل السوري، فرآنا الجنود الإسرائيليون وصاروا يطلقون النار خلفنا لتسريع هروبنا نحو الداخل، وقد أصابوا أخي بالرصاص في عموده الفقري أسفل ظهره، وعاش بعدها أربعين سنة نصفه الأسفل مشلول، حتى توفي من سنوات قليلة، ولكن رغم طول البُعد، وطول العهد، فإن هويتنا جولانية، وأرواحنا جولانية، وستبقى كذلك، ويجب أن تكون العودة هي الأساس لكل البرامج والمخططات، ولاستعادة الجولان يجب وقف كل المفاوضات السرية والعلنية، فالمقاومة الوطنية المسلحة الشاملة هي السبيل الوحيد لاستعادة الجولان».

• أبو مقبل قال: «حياة المخيم مثل حياة كل أحزمة الفقر في كل المحافظات، هناك نسبة كبيرة من الفقراء، هناك أناس مازالوا تحت سقوف من الصفيح والأترنيت، وقد تبلغ نسبتهم 10% من مجموع أهالي المخيم البالغين حوالي 30 ألف نسمة، هناك أناس ليس لديهم موارد مالية ومعيشية، لديهم بطاقات معونة نقدية من المحافظة بمقدار بخس جداً، ومخجل جداً، يبلغ 500 ل.س كل شهرين، والخدمات في المخيم معدومة، هناك حفر وأوساخ تملأ الشوارع، وسيارة البلدية تجمع القمامة يوماً وتغيب عشرة أيام، يوجد مستوصفان بالمخيم لكن الأدوية قليلة، وأغلبنا فقراء لا نستطيع شراء الأدوية في أغلب الأحيان، وفي مخيم الوافدين كله لا يوجد سيارة إسعاف، رغم أن عدد سكانه كما قلنا يزيد عن 30 ألف نسمة، ولكن تأكد أن كل هذه المشاكل والمعاناة لم تنسينا جولاننا الحبيب، الذي يجب استعادته بقوة السلاح فقط، وحلم العودة هذا لا يقتصر على من تم تهجيره قسراً من بيته الذي عاش وتربى فيه، بل انتقل من الآباء إلى أبنائهم وأحفادهم، وأطفالنا يتغنون بحب الأرض وعودتها إلى أصحابها، لأنهم يعرفون أن إسرائيل دولة مغتصِبة، ويجب علينا استعادة أرضنا بالقوة والمقاومة الشاملة». 

اغتراب وصبر على أمل العودة

تماماً مثل الحياة المعيشية في مناطق السكن العشوائي وأحزمة الفقر في جميع المحافظات السورية، يعيش مواطنونا الذين تم تهجيرهم قسراً من الجولان المحتل، والذين أُطلِق عليهم وصف (النازحين)، فمن الغربة عن البيت والأرض، إلى الغربة داخل الوطن المهمِل لأبنائه، فقرٌ وعوزٌ وبطالةٌ ومشاكلُ اجتماعية، وسوء خدمات، ونقص في مقومات الحياة الحرة الكريمة، فهل تبخل الأم بتقديم العناية والرعاية لأبنائها الذين فقدوا أرزاقهم وتشردوا في غياهب المجهول يبحثون عن الأمان والاستقرار والحياة الكريمة؟! إنهم يستحقون ذلك بانتظار تحقيق الحلم بالعودة المؤزرة.

آخر تعديل على السبت, 11 حزيران/يونيو 2016 15:28