شروط الحوار.. عُكّاز الشُطَّار

تعرّضت فكرة الحوار السياسي, ومنذ بداية الأزمة إلى رفض شديد من جانب المتشددين في طرفي الصراع, في وقت كان فيه الحوار يمثّل ضرورة موضوعية لحلّ الأزمة، لم تستطع أن تلتقطها وتبادر للدعوة إليها في حينه إلا قلّة من القوى الوطنية، وعلى رأسها حزب الإرادة الشعبية، والجبهة الشعبية للتغيير والتحرير وتحالفاتها الوطنية الأوسع، قبل أن يتحول الحوار لاحقاً, ومازال, إلى إمكانية واقعية بعد توضح التوازن الدولي الصفري والاستعصاء الداخلي.

مبادئ وليست شروطاً

تصرّ القوى الوطنية, معارضة وموالاة، على أنّ للحوار مبادئ وطنية عليا يُجمِع عليها الشعب السوري وهي في مصلحته بغض النظر عن التقسيمات الوهمية المفروضة عليه, وهذه المبادئ تتلخّص في رفض أيّ تدخّل خارجي بالقضايا السيادية التي تخصّ الشعب السوري وحده في تقرير مصيره، إضافة إلى رفض كلّ أشكال العنف من جميع الأطراف, وبالتالي القبول بالحوار السياسي نفسه طريقاً وحيداً لحلّ الأزمة. والاتفاق على هذه المبادئ يكفي لإقلاع الحوار، أمّا من يدّعي بأنّ هذه المبادئ هي شروط مسبقة، هو من يريد وضع شروطه المسبقة على الحوار, الأمر الذي يمارسه متشددون من الطرفين بشكل أو بآخر، سعياً إلى مآرب سياسية محددة.

الشروط المسبقة ومغزاها السياسي

تَمَرْحلَ المتشددون في موقفهم من الحوار عبر عمر الأزمة، من الرفض القطعي له في البداية، والذي تصاعد معززاً بأوهام الحسم/الإسقاط في خضمّ المعارك والعنف ظناً من أحدهما أنّه سيحرز انتصاراً ساحقاً على الآخر، وأنّ لا داعي للحوار. انتقالاً إلى استفاقتهما تدريجياً من أوهام النصر إلى واقع الاضطرار إلى الحوار، بحكم تطور الأحداث نحو توازن بين القوى الدولية، فصار لوضع شروط مسبقة دلالات أخرى، دلالات سياسية وليست مزاجية أو نفسية كما يدّعي الخطاب الديماغوجي السطحي للبعض, الذي يعزوها إلى رفض الحوار لأسباب نفسية تتعلق بشهوة الدمّ والإجرام بل إنّ لها دلالات سياسية، نتلمّس منها ما يلي:

- الدلالة على الضعف السياسي، لأنّ من يفرض شروطاً مسبقة لا يملك القوة الذاتية والشعبية لتحقيقها بالنضال النزيه في الداخل، فيعوّل على التدخّل الخارجي أو العنف.

- يلقي واضع الشروط المسبقة بهذه الشروط في ملعب الخصم الآخر، ليستخدمها ورقة ضغط ليس عليه فحسب، بل وعلى الشعب السوري نفسه، مستغلاً آلامه وحاجته لحلّ إسعافي، متأملاً من ذلك أن يحبط الشعب ويجعله يقبل بأي مخرج كان، على مبدأ تقديم «قشّة الغريق». فمِن المعارضة من يصعّد شروطه، ولاسيما شرط التنحّي، بتزامن مقصود مع التفجيرات والعمليات الإرهابية، ومن النظام أيضاً مَن يضع الشروط, باستغلال خاطئ للمواقف المفيدة الروسية-الصينية الرادعة للعدوان الخارجي, والنابذة للعنف, عبر الانتقائية أو التجاهل لبعض الأطراف الضرورية للحوار، كالموقف من المسلحين السوريين مثلاً.

- في حين يدّعي هذا الطرف أو ذاك بأنّ شروطه تصب في مصلحة الشعب السوري، إذ يوهمه بأنّها شروط جذرية ترفع مطالبه إلى أعلى، إنّما يحاول أنْ يصنع من تلك الشروط «سقفاً» وحدّاً لا يريد للتغيير أن يتجاوزه، بل يريد تقزيم النتائج إلى مجرّد تغيير شكلي للشخوص. إنّ التركيز على التغيير الفردي يوهم النّاس بحلّ جذري، عبر التضحية المقصودة ببعض «أكباش» الفساد، مع صون منظومته وسلطة الطبقة الاجتماعية المستغِلّة، وآليات نهبها، أي الإبقاء على النمط الجائر لتوزيع الثروة، الذي يعطي المنهوبين جزءاً صغيراً من تعبهم، ويخزّن معظم الثروة في أيدي الناهبين، الذين يتوزعون داخل النظام والمجتمع وفي المعارضة، مشكّلين ذلك التحالف الموضوعي لمصالحهم كطبقة, يوحّدها بوصفها برجوازية تابعة في بلد نامٍ ارتباطها وتبعيتها الدائمة للمركز الرأسمالي العالمي للإمبريالية، والذي لا يمكن أن يرسم لها دوراً سوى دور الشرطي المشرف على نهب ثروات شعوبها، ومنع أية تنمية حقيقية، الأمر الذي يحققه على أحسن وجه المشروع الاقتصادي النيوليبرالي، الذي يتفق أبناء هذه «الأخوية» البرجوازية على خطوطه العامة، ولا يختلفون سوى على من سيحظى بالسلطة لتنفيذه، والتمتع بمفاسده.

- من جهة أخرى فإنّ الشروط المسبقة على الحوار، تعتبر مصادرة لحقّ الشعب السوري في تقرير مصيره، واعتداءً على سيادته الوطنية، وأخطر ما فيها أنّها, وعبر تقديمها بدائل وهمية، وخاصة عبر مشروع التقسيم والمحاصصة الطائفية، والديمقراطية الأمريكية-الغربية،  أو ما يسمّى بـديمقراطية «المكوّنات», أي مكونات ما قبل الدولة الوطنية، تعتبر نوعاً من الضرب لمفهوم المواطنة والوحدة الوطنية، وحرباً استباقية على البديل الشعبي الحقيقي, والمشروع الوطني للتغيير الجذري الشامل المتكامل للنظام السياسي الاقتصادي-الاجتماعي والديمقراطي.