«مخفر عرنوس» والمئتي حرامي..!

أصبح دور الفاسدين الكبار الموجودين في النظام وفي المجتمع في خلق أزمات سورية السابقة وصولاً إلى أزمتها الراهنة واستمرار هذه وتعمقها، أمراً واضحاً وعيانياً وملموساً يعرفه السوريون جميعهم ويتحسسونه في كل تفصيل من تفاصيل حياتهم، وما عاد صعباً على أحد فهم كون الفاسدين الكبار نقاط عبور أساسية للخارج، وما عاد صعباً كذلك فهم تكامل دورهم مع دور التكفيريين في محاولة تحويل سورية إلى دولة أمراء الطوائف الضعيفة و«القوية بضعفها» وفقاً للمبدأ اللبناني الشهير.. يبقى أن نسأل من هم هؤلاء؟ أليست لهم أسماءٌ يعرفون بها؟ أم أنهم غدوا أشباحاً يشار إليهم بصفاتهم ونتائج أفعالهم دون شخوصهم؟

إن من الثابت أن الفساد لا يقتصر على مئتي شخص كما جاء في عنوان المادة، لكن الفساد إذا صنف وفقاً لدرجاته ونوعيته إذاً لوجدنا أن بين الفاسدين فاسدين صغاراً كثيري العدد قليلي النهب تدفعهم في الأساس حاجتهم وانخفاض أجورهم عن الحد الأدنى لمستوى معيشتهم، وفي المقابل فإن فساداً كبيراً يضم أعداداً قليلة يقول بعض الاقتصاديين أنها تتراوح بين مئة إلى مئتي شخص يبتلعون ما يقارب %80 من إجمالي الفساد الذي يصل إلى %30 من الناتج الإجمالي المحلي وفقاً لأرقام تعود إلى ما قبل سنتين والوضع اليوم أسوأ بكثير.. إن الدافع وراء فساد هؤلاء هو جشعهم وإلى ذلك فإن فسادهم ليس كمياً فقط، بل إن السمة الأساسية لفسادهم أنه يأتي حاملاً لمشروع اقتصادي وسياسي وثقافي محدد، إذ إن الاستمرار بالنهب بمعدلات فلكية كالتي أوردناها يحتاج إلى منظومة متكاملة من التشريعات والقوانين والتوجهات الاقتصادية والثقافية وحتى السياسية، وليس مستغرباً عندها أن يتفق هؤلاء مع الإخوان المسلمين وأمثالهم من دعاة الليبرالية على مشروعهم كاملاً بما فيه شقه السياسي- الطائفي.. عوداً على بدء، أليس بالإمكان تسمية هؤلاء..؟ نعم، لعل من الممكن تسمية جزء لا بأس به منهم، ولكن لهذه العملية محاذير هي التالية:

أولاً: إن مجرد تسميتهم دون القدرة على محاسبتهم، هي كمن يقول كلمة الحق ويمضي..، وذلك يسميه هادي العلوي في مداراته الصوفية (الفيلسوف الفيلسوف) الذي يلقي كلمته في الأرض ويمضي فلا تثمر، وعلى الضفة الأخرى يقف الفيلسوف الاجتماعي الذي إن قال كلمته وقف معها حتى تتحقق، وبالإجمال فإن محاسبة المئتي حرامي لا تعني إلا شيئاً واحداً، تعني أن الشعب السوري قد أنجز ثورة مكتملة، الأمر الذي لا يزال بحاجة إلى درجة أعلى من تنظيم المنهوبين لصفوفهم، وهذا التنظيم يأخذ طريقه إلى التحقق يوماً بعد يوم ولكنه سيحتاج بضع سنوات أخرى حتى يصل الدرجة المطلوبة، ومواجهة الأسماء هذه قبل ذلك هو تبرؤ من استكمال النضال ضدها، وبراءة للضمير لا معنى لها لثوريين حقيقيين..

ثانياً: إن التركيز على أسماء دون غيرها، علاوة على كونه تغطية على الأسماء غير المعلنة، فإنه وكما يجري التداول الآن هو تركيز يعلن حقاً ويخفي باطلاً، إذ يركز على أسماء بعينها يراد من الهجوم عليها (وهي تستحق الهجوم والمحاسبة بلا شك) تعميق الانقسام الطائفي، فيهجمون باسم طائفة أولى على فلان الذي ينتمي لطائفة ثانية، ثم لا يوضحون بل قل يخفون أن شركاء هذا الأخير هم من الطائفة الأولى عينها التي يتم الهجوم باسمها.. وهكذا فإن أحد المحاذير التي ينبغي التعامل معها بجدية هي محاولة الفاسدين أنفسهم تجميع طوائفهم حولهم وهم ناهبوها وناهبو غيرها ليعاد التقاسم بين الناهبين باسم الطوائف، أو لنقل ليعاد تقسيم السوريين خرافاً طائفية وديعة على سكاكين أمرائها الطائفيين..

ثالثاً: إن أكثر المقاتلين حكمة هو القادر على جعل أعدائه يختصمون فيما بينهم، ويمنع وحدتهم ضده، وكشف الفاسدين الكبار سيوحد صفوفهم وسيسمح سياسياً بتمرير ما أسميناه سابقاً بالخطة «ب» أو الخطة البديلة التي يجري وفقاً لها تغييرات تجميلية طفيفة ويبقى الجسم السوري معلولاً بفساد كبير يتقاسمه هذه المرة فاسدو النظام جنباً إلى جنب مع فاسدي المعارضة وفقاً لنظام توزيع الثروة نفسه الذي أرسته الليبرالية خلال العقد الأخير.. بالمقابل فإن استمرار انتظام جماهير المنهوبين واستمرار ضغطهم على الفاسدين من خلال الضغط على مشاريعهم وإغلاق سبل النهب في وجوههم سيجعلهم يلتهمون بعضهم بعضاً ويسمح باستكمال عملية القضاء عليهم في فترة أقرب..

رابعاً: إن ذكر أسماء الفاسدين الكبار سينزل بقضية محاربة الفساد من مستواها السياسي إلى المستوى القضائي القانوني، وهذا الأخير ضمن الظروف السياسية الحالية لا يمكن بحال من الأحوال ضمان استقلاليته وقدرته على البت بقضايا من هذا النوع، وخصوصاً في تلك الحالات التي تمثل فيها بعض الأسماء حالة من تزاوج المال مع السلطة..

نعود إلى التذكير بمقولة مخفر عرنوس والمئتي حرامي.. فمخفر شرطة واحد ليس بالضرورة عرنوس قادر على اعتقال الفاسدين جميعاً ولكن ذلك بحاجة إلى قرار سياسي والقرار بحاجة إلى توازن قوى لمصلحة المنهوبين ضد الناهبين، وهذا الأخير بحاجة إلى نضال مستمر يسمح بكسر الاصفافات الوهمية جميعها والركون إلى اصطفاف واحد هو منهوبون في وجه ناهبين..