أحمد حسن الرز أحمد حسن الرز

سورية.. بين دولة السُّلطة وسلطة الدَّولة!

كان مفهوم جهاز الدولة، خلال ما مرَّ حتى الآن من عمر الأزمة السورية، عرضةً للتداول السياسي في العديد من السِّجالات واللقاءات الحوارية التي أثبتت، بما لا يقبل الشك، غياب المعنى العملي الدقيق لمفهوم جهاز الدولة عن تصورات الكثير من المحللين والرموز السياسيين، الموالاةُ منهم والمعارضة على حدِّ سواء. هذا ما سيقودنا إلى دراسة إحدى أهم الروابط المشتركة الجامعة ما بين طرفي الانقسام الوهمي في المجتمع السوري، وهي رؤيتهما السياسية القائمة على اعتبار جهاز الدولة السورية والنظام السياسي في سورية وجهينِ لعملةٍ واحدة، لا يمكن الفصل بينهما أبداً. وفي هذا ضررٌ واضح لجهاز الدولة من جهة، ومحاولة للهروب من المسؤوليات التي يفرضها منطق النضال الوطني إزاء تعزيز ودعم قدرة الدولة السورية على الصُّمود والتقدم من جهةٍ أخرى..

الدولة بين النضال الثوري والفوضوية:

حدَّدت الماركسيَّة اللينينيَّة، بوصفها المنهج الفكري الأكثر ثوريةً وعلميةً في آن، رؤيتها الواضحة حول جهاز الدولة ودوره في المجتمعات البشرية. واستخلصت هذا الموقف انطلاقاً من الضرورة التي تفرض نفسها على الطبقة المالكة في المجتمع، وتتمثل هذه الضرورة بحاجة هذه الطبقة إلى السيادة السياسية، الكفيلة باستمرار المستثمِرين في استثمارهم بشكلٍ أوسع وأفضل من جهة، وأكثر قدرةً على اضطهاد الأغلبية المسحوقة طبقياً من جهةٍ أخرى. لجملة هذه الأسباب اعتبرت الماركسية اللينينية العمل في سبيل «اضمحلال الدولة»، بما يُفضي إلى انتزاع الأداة القامعة من قبضات مالكي وسائل الانتاج، نضالاً مشروعاً لا بُدَّ وأن يستند إلى أسس مُمنهَجة.

ولم تكتفِ بذلك، إذ رسمت الحدود المعرفية الفاصلة ما بين العمل الثوري القائم على أساس علمي والفوضويَّة، حيثُ أشارت في العديد من مصادرها إلى أن اضمحلال الدولة ما هو في الواقع سوى عملية تغيير بطيئة، تدريجية، وموزونة، تهدف لإلغاء الملكية الخاصة لوسائل الانتاج، والاستغلال الجماعي لهذه الوسائل، وإلغاء النظام الذي بمقتضاه تشبع الأقلية حاجاتها على حساب الأكثرية، أي إلغاء الطبقات، وكل هذا بعد أن تصبح هذه الأكثرية الشعبية سائدة سياسياً، بمعنى أنها قد استطاعت أن تملك زمام السلطة السياسية، لا قبل ذلك. هذا ما يضع التصورات الشعواء حول شرعية محاربة جهاز الدولة، دون تكبُّد عناء النظر إلى الموقع الحالي للأكثرية، وظروفها الموضوعية، مجرد هلوسات فوضوية، لا تستهدف في آلية عملها العشوائية، سوى الطبقات المُهمَّشة ذاتها، والتي هي بأمسِّ الحاجة إلى تنظيم يرفع، لايقلل، من جاهزيتها وفاعليتها في النضال المطلبي المُمنهَج، القادر على تحقيق أهدافه بمدى ما يُزاوج بين حركته الثورية والنظرية العلمية للثورة.

إن ما سبق ذكرهُ يؤكد لنا، أنه إذا كان النضال من أجل تقليص دور الدولة مشروعاً في زمن سيطرة الطبقات المسحوقة على جهاز الدولة، فإن الخطوة الأولى التي يجب توجيه بوصلة النضال نحوها، هي العمل على تحقيق هذا الحكم الشعبي، ورفع جاهزية الأكثريَّة المُهمَّشة لتتمكن من الإمساك بزمام جهاز الدولة، ما يذلِّل أمامها الطريق، نحو اتخاذ الخطوات الكفيلة بالإجهاز التام على آخر مظاهر الغبن والظلم الطبقيين، وتحقيق العدالة الاجتماعية الكاملة المتمثلة بإلغاء الطبقات في المجتمع. مما سبق، يُمكن استنباط الضرورة المتمثلة في مدى إدراك المناضل الحقيقي لموقعه في سيرورة النضال الثوري التاريخي، متميزاً بقدرته العالية على رؤية الأمور ضمن مجال حركتها الحقيقية، أي في جوهرها، لا فيما تحاول التمظهر به من رداءات خادعة.

جهاز الدولة في الأزمة السورية:

منذ إعلانها السيطرة على مقدرات الشعب السوري ولقمته، تعنَّتت قوى الفساد في النظام السوري في اعتبارها جهاز الدولة، مُلحقاً لا يعدو كونه إحدى ملحقات السلطة السياسية القائمة. وإذا ما أمعنَّا النظر قليلاً في ما هو مستتر خلف الصورة الظاهرية للأمور، لوجدنا أن لهذا أسباباً عديدة غير مُعلنة، تبدأ بمحاولة خداع الشعب السوري، وجرِّه نحو التوحيد ما بين شرعية النظام السياسي، بما يحمله من منهج وسياسة وطريقة لإدراة جهاز الدولة، وبين جهاز الدولة ذاته، المُعبَّر عنه بمجموع المؤسسات والدوائر والبنية التحتيَّة والاعلام الرسمي والجيش السوري...إلخ، والذي هو، في نهاية الأمر، ليس سوى نتاج عمل وكدّْ الشعب السوري. هذا ما يساهم في نشر ما تُطرب قوى الفساد حين تسمعه من أفكار مفادها أن انتقاد النظام السياسي في سورية، لا يمكن أن يكون سوى انتقاد للدولة السورية، بما تحمله من رمزية في نفس الشعب السوري، على طريقة «الحزب القائد» في تقزيم سورية وحصرها بالسلطة السياسية مُطلقة الصلاحيات. وفي هذا أيضاً، محاولةً واضحة لحرفِ أنظار الشعب السوري، عما يُشكِّل الخطوة الأولى في تقييم السلطة السياسية، وهو الإدراك الشعبي الواسع لحقيقة أن الانتقاد السياسي يجب أن يكون موجهاً إلى سياسات وطرق لإدارة جهاز الدولة، وليس معاداةً لجهاز الدولة ذاته بحجة محاربة النظام السياسي!

وقد أثبتت بعضُ قوى «المعارضة» السورية، من خلال التجربة، أنها لم تحمل معها سياسةً أكثر وطنية من سياسة قوى الفساد في النظام فيما يخص رؤيتها وموقفها من جهاز الدولة السوري، فذهبت بعض قوى «المعارضة» هذه، عن قصدٍ أو عن غير قصد، حدّ الدفاع الأعمى عن شرعية هذا الخلط ما بين النظام السياسي وجهاز الدولة. فـ «المعارضة» اللاوطنية، المثقولة بأجندة خارجية لا طاقة لها على التخلي عنها، لم تجهد نفسها عناء تبرير استهداف الدفاعات الجوية للدولة السورية، وضرب الأفران ومصادرة ممتلكات المؤسسات السورية ... الخ، فحجتها الساذجة جاهزة، تحمل ما مفاده أن هذه المؤسسات والدفاعات والأفران هي ملكٌ للنظام السوري، فتصبح الخيانة المتجسدة في المساهمة بضرب الاقتصاد الوطني السوري مشروعة بعد التدليل على أنه «اقتصاد نظام»، وليس اقتصاد دولة وشعب، لا بل بهذه الطريقة يصبح تدمير الاقتصاد الوطني هدفاً يفرض نفسه على «الحركة الثورية» !!

يبدو جلياً الهدف الآخر الرابض وراء تمسُّك بعض قوى «المعارضة» اللاوطنية بمبدأ المزاوجة ما بين النظام السياسي وجهاز الدولة، وهو الهروب من مهمِّة صياغة برنامجها السياسي، القادر على إنجاز الهدف الحقيقي للشعب السوري، والمتجسد في وضع الأسس الكفيلة بتحقيق السلطة الشعبية التي ستقوم بإدارة جهاز الدولة، بما يعبِّر بالفعل عن مصالح الفئات المُهمَّشة في المجتمع السوري. وهنا يبدو، أن تركيز جهود هذه «المعارضة» نحو محاربة رموز بذاتها، وليس لسياساتٍ مُحدَّدة، لم يكن عبثياً بالمطلق، فهذا التركيز، يحمل فيما يحمله إدراكاً منها بأنها لا تختلف من حيث البنية والسياسات وطرق إدارة الدولة عن قوى الفساد في النظام.

عودةً على ما أسلفناهُ من أن المطلب الحقيقي للسوريين اليوم، هو إنجاز السيطرة الشعبية على جهاز الدولة السوري،  وعليه فإن المطلوب اليوم، هو تضافر جهود الوطنيين السوريين، نحو الحفاظ على جهاز الدولة من حيث المبدأ، وتفكيكه وتطهيره واعادة تركيبه مع العمل على تغيير النظام السياسي بما يُعزِّز من تقدم البلاد، ويعطي للدولة قوة شعبها. فلا المؤسسات المنهوبة مؤسساتُ نظام، ولا الدفاعات المُستهدَفة دفاعاته، ولا الدولة التي تعيثُ فيها الأزمة فساداً دولته، هي ملكٌ للسوريين جميعاً، ولا منّة لأحدٍ عليهم فيها، ولن يقبل الشعب بتوافقات تُفضي إلى اقتسام الدولة ما بين الفاسد الموالي للنظام الحالي، والفاسد «المعارض» لهُ. فالكلمة الفصل في سورية، هي للوطنيين إذا اتحدوا..

آخر تعديل على الخميس, 19 أيار 2016 14:39