«استفتاء» أم «استقواء»..؟

«استفتاء» أم «استقواء»..؟

يخرج عليك في فضائية ما، ناطقة بالعربية، سياسي أو محلل سياسي، محسوب على النظام أو يتحدث باسمه، ليشدد بأغلظ الأيمان، أن «لا أفق لأي نتيجة من جنيف2 ما لم تخضع لاستفتاء على الشعب وتحظ بموافقته»..! 

بموازاة ذلك، لا يتجرأ أي سياسي أو محلل سياسي من المعارضة المصنفة «خارجية» على طرح هذه الفكرة، كونه أساساً، ومن اسمه وواقعه، مستقوياً بالخارج، ليكون بهذا المعنى «مسيراً وليس مخيراً» بحكم معرفته أن وجوده قائم باستمرار وزن من يشغله دولياً وإقليمياً وهو «مبسوط» بفكرة/ وهم أنه «الممثل الشرعي والوحيد للمعارضة.. وأحياناً للشعب السوري».. فلماذا الاستفتاء أصلاً، بالنسبة إليه..؟؟!

في المقابل، يشدد جزء من معارضة «الداخل» على طول الخط بأن العملية السياسية المطلوب من جنيف تأمين مناخها بعد وضعه حداً للتدخل الخارجي وللعنف هي من مسؤولية السوريين فيما بينهم حصراً، بمعنى تأمين الإطار الدولي والإقليمي الذي يسمح للسوريين بتقرير مصيرهم بأنفسهم. وهذا الفهم تطلقه إعلامياً ومن حيث المبدأ كل القوى الدولية والإقليمية المعنية بالأزمة السورية، بما فيها اضطرار «الراعي» الأمريكي للتلطي خلفه، في الوقت الذي لا يزال يعمل به ما بوسعه لنسف أي عملية سياسية جدية تحافظ على سورية بالمعنى المعروف سابقاً أو تبنيها بالنموذج المطلوب لاحقاً..!

المفارقة هنا بالمضمون بالنسبة لهذه القضية الصحيحة من حيث المبدأ، هي أن الحديث «الشكلي» من الطرف الأول عن الاستفتاء هو نفس عدم حديث الطرف الثاني عنه، وذلك لسبب بسيط أن كليهما، ورغم مرور ثلاث سنوات على الأزمة السورية، نتاج ذهنية المادة الثامنة القديمة بالدستور السابق القائلة بـ«الحزب الواحد القائد» (أي المتحكم)، أحدهما بقوة عطالة استمرار فعلها بالدولة وبعض المجتمع على الأرض، والثاني بقوة ما يحاول الأمريكي فرضه..!    

وقد لا يهم هنا التركيز على ظاهرة قد تكون عابرة أو قليلة التأثير في إطار آفاق أية حلول حقيقية للأزمة السورية، أي ظاهرة «المعارضة الخارجية»، ولكن ما يستوجب التوقف عنده هو ذاك السلوك من غالبية أوساط النظام، بما فيها متشددوه، والذي بغض النظر عن تجاهله للبعد الأخلاقي في مسؤوليته عن الأزمة وتفجرها وتفاقمها أمام الشعب السوري إنما يتجاهل البعد السياسي لتلك المسؤولية، لتحاول تلك الأوساط قطف ثمار الحل السياسي (الذي عاندته طويلاً) أو أقله مقاسمتها مع تلك القوى من «معارضة الخارج» التي تتقاسم المسؤولية ذاتها عبر تأجيج العنف والاقتتال الداخلي، وانحداره إلى مستويات أهلية خطيرة، وعبر استدعاء التدخل الخارجي، أي تدويل الأزمة والوصول إلى ما وصلت إليه.

وبهذا المعنى يجد المواطن السوري العادي أن تلك الأوساط ذاتها التي عملت على توظيف مجريات الأزمة لمصلحة بقائها تعمل اليوم على توظيف «جنيف» وموجباته حالياً للغاية نفسها، وذلك باستخدام ما بقي متاحاً لها من مؤسسات الدولة والحكومة، بما فيها النقابات مثلاً، وهذا ما يجد تعبيراته على سبيل المثال أيضاً في شكل إنجاز التسويات في بعض المناطق «الساخنة»، وفي استنهاض المسيرات، وفي الأداء الإعلامي الرسمي وشبه الرسمي (الذي يفرد في نشراته الرئيسية فقرات طويلة لمسؤول «بعثي» بارز، وعندما يستضيف معارضاً ما في برنامج ما يكون ذلك بفضل ومنيّة) وكذلك في بعض الممارسات الميدانية من بعض الأجهزة والميليشيات غير الشرعية التابعة للنظام.

قد يقول قائل: «هذا صراع سياسي.. وحلال على الشاطر..!»، غير أن مشكلة هذا الطرح أنه بحد ذاته عابر و«إرادوي» يلوي عنق المستجدات الموضوعية على المشهد السوري العام ليتجاهل فوق كل أوجه التجاهل المذكورة آنفاً حقيقة أنه للخروج الجدي من الأزمة وضمان عدم إنتاجها لاحقاً ينبغي، من ضمن قضايا أخرى، إدراك أنه ثمة فضاء سياسي قديم يتماوت وثمة فضاء سياسي جديد قيد التشكل وهو غير متبلور بعد، لتبقى في كل الأحوال المسؤولية ملقاة على دور القوى السياسية الجديدة، وبالاصطفافات الوطنية الحقيقية وغير الوهمية أو الثانوية والتي من شأنها إعادة الاعتبار للحراك الشعبي السلمي والمقونن، في كشف ملابسات أية خروقات دستورية، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه حتى الدستور الحالي هو قابل للنقاش والتعديل أو حتى التغيير كأحد النتائج المحتملة لتلك العملية السياسية التي يقال إنها من مهمة السوريين، ولكن السوريين الأنداد وليس بأي شكل آخر. 

وبين من يريد إعادة عقارب الزمن للوراء، من خصوم وفاسدي الداخل، ومن يريد إعادة سورية ككل للعصر الحجري، من أعداء الخارج وأدواتهم، تبقى إتاحة الفرص الحقيقية والمضمونة للتعبير عن إرادة الناس، أياً كانت نتيجتها، ودون الاستباق عليها أو التعامل معها انتهازياً وبقوة الأمر الواقع، هو أحد أوجه الفهم المطلوب لمخرجات العملية السياسية السورية- عبر جنيف اليوم- كتمهيد موضوعي لتحقيق التغيير الجذري العميق والشامل في البنية السائدة في البلاد، سياسياً واقتصادياً اجتماعيا وديمقراطياً، وبما يحافظ عليها أرضاً وشعباً ومواقف وطنية، شعبية المنشأ أساساً.