الديالكتيك في النظرية الماركسية-اللينينية (1)
بيوتر كوندراشوف بيوتر كوندراشوف

الديالكتيك في النظرية الماركسية-اللينينية (1)

بحسب ستالين «اللينينيّة هي ماركسية عصر الإمبريالية والثورة البروليتارية. وبدقة أكبر، إنها نظرية وتكتيك الثورة البروليتارية عموماً، وديكتاتورية البروليتاريا خصوصاً». في المقال التالي نلخّص (بتصرّف) أبرز ما جاء في بحث بعنوان «تأملات في ديالكتيك لينين» للباحث في قسم الفلسفة والقانون بأكاديمية العلوم الروسية بيوتر كوندراشوف، المنشور في دورية Monthly Review مطلع العام الجاري 2023.

تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان

قدّم فلاديمير إيليتش لينين مساهمة كبيرة في تطوير جميع العناصر المكوّنة للماركسية، بما فيها الديالكتيك المادّي بكلّ مناحيه، من المنهج، والمنطق الديالكتيكي، وديالكتيك العالَم المادّي الموضوعي إلى ديالكتيك العملية الثورية وبناء المجتمع الاشتراكي.
ويمكن فهم الديالكتيك، وفقاً للينين، بثلاثة معانٍ علميّة على الأقل:
1- خاصيّة تطوُّر الطبيعة غير الحية، والحية، والعقل والمجتمع، من خلال التناقضات وإزاحتها، أو «الديالكتيك الموضوعي» كما فهمه لينين مقتفياً أثر إنجلس.
2- مذهب خاصيّة الوجود هذه وتجلّيها في مجال خاصّ وكذلك في منظومة من المقولات والقوانين، التي يتم بواسطتها فهم وانعكاس الديالكتيك الموضوعي في التفكير (الديالكتيك الذاتي).
3- منهج البحث لدراسة العالَم الموضوعي والذاتي.
وسوف يركز هذا المقال فقط على تحليل بعض جوانب الديالكتيك اللينيني للعمليات والظواهر الاجتماعية، ولن يتطرّق إلى الديالكتيك «الأونطولوجي» للمادة والوعي (الشق الأول من السؤال الأساسي حول أيّهما الأسبق بالوجود)، ولا لديالكتيك العلوم الطبيعية - حيث قدّمها لينين في كتابه «المادّية والمذهب النقدي التجريبي» عام 1909.

الديالكتيك الاجتماعي

سنتناول اثنين من الموضوعات الشهيرة لدى لينين يتعلقان بجوهر الديالكتيك ومنهما طوّره خطوة إلى الأمام، روح الماركسية والحزبية، والطابع الطبقي للعلوم الاجتماعية.
جوهر الديالكتيك
يكتب لينين، «باختصار، يمكن تعريف الديالكتيك بأنه مذهب وحدة الأضداد. فهذا يجسّد جوهر الديالكتيك ولكنه يتطلّب تفسيراتٍ وتطويراً». إنّ لينين يتكلّم هنا عمّا يكوّن اللبّ الداخلي لمنهج البحث العلمي الديالكتيكي؛ ألا وهو أن يتم الكشف في ظاهرةٍ اجتماعية (مادية أو فكرية، وجوداً أو وعياً) عن تلك التناقضات القائمة واقعياً، الداخلية والخارجية وتركيباتها.
وعندما يطبّق جوهر الديالكتيك هذا على دراسة عمليّات اجتماعية، يعني ذلك بالنسبة للينين الحاجة لاستجلاء، أولاً، التناقضات الملموسة في تطوّر البنية الاقتصادية، وثانياً، التناقضات الطبقية التي تجد تعبيراتها في الصراع الطبقي والتمسك بالمصالح الطبقية، وذاتياً في شكل الوعي الطبقي.
أما المبّرر والغرض من تطبيق هذه المبادئ فنجد توضيحه من نقطة الانطلاق الثانية التي صاغها لينين في رسالة إلى إينيسا آرماند حيث كتب، «إنّ روح الماركسية بأكملها، منظومتها الكلّية، تطالبنا بالنظر في كلّ موضوعة، (أ) تاريخياً فقط، (ب) وفقط في صلتها بغيرها، (ج) وفقط في صلتها بالتجربة الملموسة للتاريخ».

العلوم الاجتماعية طبقيّة/متحزّبة

بتركيب مبدئي الانطلاق معاً (مذهب التناقضات، وتاريخيّة الوجود الاجتماعي) نتوصّل إلى مبدأ أساسي آخر للديالكتيك الماركسي، هو التحزُّب، بمعناه الواسع، بأنْ يتم إيلاء الاهتمام للمواقع الاجتماعية- الاقتصادية عند دراسة الظواهر الاجتماعية المختلفة.
في هذه اللحظة «الذاتية» تكمن خصوصية العلم الاجتماعي كشكلٍ يتميّز عن العلوم الرياضية والطبيعية. يقول لينين، «لو أنّ المسلّمات الهندسية تؤذي مصالح الناس، لربّما كانت قد رُفِضَت». إنّ علوم المجتمع، بل وحتى القيام بدراسة شخص واحد في حالة خاصّة ما، يعبّر دوماً، وبشكلٍ واعٍ أو بلا وعي، عن مصالح الطبقات أو الشرائح أو المجموعات الاجتماعية المعيَّنة التي ينتمي إليها عالِم الاجتماع أو التي يتعاطف معها الشخص بوصفه فرداً حيّاً ملموساً.
هذا المبدأ لدى لينين ملموسٌ وتاريخي، ومرتبطٌ بالإعلان الصريح لحقيقة أنّ البحث الاجتماعي متحزّب (حتى ولو كان إحصاءً اجتماعياً «موضوعياً» مفترضاً).
وكما لاحظ الباحث Torkil Lauesen فإنه «لا يمكن وجود علم اجتماعيّ (غير منحاز) في مجتمعٍ قائم على الصراع الطبقي. فبطريقة أو بأخرى، يدافع العلم الليبرالي والمملوك للدولة [الرأسمالية] عن العبوديّة المأجورة، في حين تعلن الماركسية حرباً ضروساً على هذه العبودية. إنّ توقُّع علمٍ غير منحاز في مجتمع عبودية الأجور، لَهُو على القدر نفسه من سذاجة أن تتوقّع نزاهة أرباب الصناعة في مسألة إذا ما كانوا سيرفعون أجور عمّالهم عبر تخفيض أرباح رأس المال».

مبدأ التاريخية

بما أنّ الديالكتيك المادّي، طبقاً لكلٍّ من ماركس ولينين، هو في العمق علمُ تاريخ، فإنّ مبدأ التاريخية ينبغي أن يكون منطلق تحليلنا، حيث يُنظَرُ إلى أية ظاهرة في سياق تطوُّرها، يعني بوصفها، 1- لها ماضٍ وتنمو من تركيب تناقضات داخلية وخارجية من هذا الماضي. 2- قائمةً وفعليّة (الحاضر). 3- تتجاوز حدودها بفعل تأثير تناقضاتها بالذات، وتعطي إمكانية حالة مستقبلية مختلفة (المستقبل).
في محاضرة له بجامعة سفيردلوف (11 تموز 1919) قال لينين بضرورة «النظر إلى كلّ مسألة من وجهة نظر كيفية نشوء ظاهرة معروفة في التاريخ، وما هي مراحلها الرئيسة خلال تطوّرها، وما آلت إليه اليوم من وجهة النظر هذه».
وعلى ضوء الديالكتيك الاجتماعي لدى لينين، يمكننا وكتمييز عن «التاريخية الطبيعية» صياغة التعريف التالي «للتاريخية الاجتماعية» بوصفها عملية تطوّر متماسكة متكاملة موقوتة (ذات بداية ونهاية وامتداد زمني معيَّن) بحيث إنّ كُلَّ جيل من البشر خلالها، 1- يجد لنفسه لحظة أوّلية معيَّنة في العالَم الموضوعي-الطبيعي الاجتماعي قد ورثها عن أجيالٍ سابقةٍ كوَّنَتْها. 2- يدمج ويكامِل ذلك العالَم في بناه المادية والمثالية عبر تطوّره العمليّ والنظري. 3- تحت تأثير التناقضات الداخلية والخارجية، يقوم بتغيير الحاضر من خلال نشاط تغيير اجتماعي (براكسس/ممارسة). 4- يخلق عالَماً جديداً بحيث إنه وفي آن معاً يحتفظ «بآثار» الحالات السابقة (الماضي) ويخلق علاقات وبنىً وأشياء وخصائص وأشكال نشاط وأفكاراً وحاجاتٍ وحالاتٍ غير مسبوقة (المستقبل). 5- ثمّ يورِّث هذا العالَم الجديد للأجيال اللاحقة.
إنّ منهج التحليل التاريخي الملموس يوجِّه فكر الباحث تجاه التطوّر الخاصّ لموضوع بحثه (ظاهرة اجتماعية ما)، حيث يتم فهمها في تاريخيّتها وعلاقتها بالعضويّة الاجتماعية ككلّ. في أعمال ماركس ولينين، كان مبدأ التحليل التاريخي الملموس يعني تحرّك البحث من معالجة الحياة اليومية (المفرد/الوحيد)، مروراً بفهم البنى في حالة خاصّة أو بلد معيّن اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً (الخاص)، وأخيراً تضمين هذا التحليل في سياق أسلوب الإنتاج والتشكيلة الاجتماعية السائدَين (العام).
في الجزء الثاني من المقال سنتابع الحديث عن مبدأ الترابط الشامل، والانعكاس، والدور الفعّال للوعي، ثمّ الديالكتيك المادّي كمنهج علمي.

(الجزء الثاني)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1144
آخر تعديل على الأحد, 04 شباط/فبراير 2024 11:32