الديالكتيك في النظرية الماركسية- اللينينية (2)
بيوتر كوندراشوف بيوتر كوندراشوف

الديالكتيك في النظرية الماركسية- اللينينية (2)

استعرض الجزء الأول من هذه المادة تلخيصاً (بتصرّف شديد) عن الكاتب بيوتر كوندراشوف لفهم لينين للديالكتيك، وتركيزه على الطابع الطبقي للديالكتيك الاجتماعي في المجتمعات الطبقية، وكذلك للعلوم الاجتماعية فيها. ونتابع معه هنا الحديث عن مبدأ الترابط الشامل، والانعكاس، ودور الوعي الفعّال.

تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان

العنصر الضروري التالي في الديالكتيك المادي يتعلق باعتبار الظواهر الاجتماعية الملموسة مترابطة فيما بينها، ومرتبطة أيضاً بالمؤسسات والعمليات الاجتماعية ضمن علاقتها بالطبيعة. وبهذا المعنى يتبين بأن أية ظاهرة اجتماعية هي بنيوية ووظيفية: إنها تكوينية وتوليدية (أي أنها تتكون من غيرها وتولِّد غيرها) كعنصر من كلّ شامل. وعلى هذا الأساس يجب دراستها.
وفي مبدأ الترابط الشامل تعتبر أية ظاهرة اجتماعية: 1- نتيجةً لتفاعل. 2- منظومة تتكون من عناصر متفاعلة. 3- جانباً من تفاعل مع ظواهر أخرى. 4- سبباً ديناميكياً لتفاعلات وظواهر أخرى.

مبدأ الانعكاس

من مبدأ التفاعل الشامل بين الظواهر يمكن استنتاج مبدأ الانعكاس. وحتى في التعابير التي نستخدمها في حياتنا اليومية، نقول: إن الأمر الفلاني جاء «انعكاساً» لحدث أو أمر آخر... والمقصود، هو قابلية الظواهر على التأثير بعضها في بعض وإحداث تغييرات في خصائص معينة أو إعادة تمثيل (إعادة إنتاج) خصائص الظاهرة المؤثّرة في الظاهرة المتأثرة بها، ويمكن أن يكون ذلك في شكلها أو بنيتها الداخلية.
وفي الديالكتيك الماركسي- اللينيني تحتل مقولة «الانعكاس» بهذا المعنى أهمية خاصة، ولا سيما عند التعامل مع الوعي بوصفه «انعكاساً» للمادة. وعندما نقول مع لينين، بأنّ الوعي انعكاسٌ للمادة، أو يعكس المادة، نعني في نهاية المطاف في السياق الاجتماعي بأن ما نفكر فيه لا بد وأن يكون ناتجاً عمّا يحيط بنا من واقع وظروف نعيشها، وما نفعله وما ندخل فيه من علاقات مع الآخرين، وما نستعمله من أشياء وما إلى ذلك. وبتعبير آخر، وكما كتب ماركس وإنجلس في الإيديولوجيا الألمانية: «الوعي لا يمكن أن يكون شيئاً آخر سوى الكائن الواعي».
هذا المبدأ كما هو واضح، يتعلق بالمسألة الأساسية في الفلسفة بشقها الأول: (الذي يسمى الشق الأونطولوجي، بمعنى الذي يتعلق بسؤال: أيهما أسبق في الوجود المادة أم الوعي).
أما الشق الثاني من المسألة: فيسمى بالشق المعرفي (الإبستيمولوجي)، وأشار كونراشوف إلى أنه يمكن تقديم مبدأ الانعكاس منهجياً بشكل ثلاث قواعد مترابطة هي التالية:
القاعدة الأولى: لدى دراسة ظاهرة اجتماعية خاصة، من الضروري دائماً التعرف على الآلية العامة لتحديد محتوى الوعي بواسطة ظروف الوجود المادية.
القاعدة الثانية: لدى تطبيق القاعدة الأولى، يجب أن نلتزم بالخط المادي، كما عبّر لينين عندما كتب: «إنّ التفكير يتحدد بالوجود. وهذا يعني بأنّ العلاقة الفعلية للناس الموجودين فعلياً في واقع مادي، هو جانب، بينما وعي هؤلاء الناس هو جانب آخر. وهذا الوعي ليس هو الأوليّ، بل إنه المشروط، والمحدَّد بالمنظومة القائمة الواقعية في المجتمع، وجميع الشروط المادية التي يعيشها الناس. يجب علينا أن نكون قادرين على الدراسة الدقيقة للعلاقات الاجتماعية الفعلية كما توجد فعلياً، دون تشويشها بما يعتقده الناس عنها، دون تشويشها بأفكار الناس».
القاعدة الثالثة: وأخيراً، وضمن آليات التمثيل/ الانعكاس، من الضروري أن نأخذ بالحسبان ديالكتيك الجوهر والظاهرة. بمعنى أن نطبق مبدأ الديالكتيك المادي الذي ينظر إلى الموضوع الواحد نفسه كظاهرة وجوهر: وراء كل ظاهرة من ظواهر الحياة الاجتماعية يكمن جوهر، وبالتحديد يكمن هذا أو ذاك من أشكال الممارسة الاجتماعية- التاريخية، أو النشاط البشري الخاص، والذي يتبين بأنّ هذه الظاهرة الاجتماعية ما هي إلا نتاج لممارسة هذا النشاط.

الوعي الفعّال

بما أننا نتكلّم عن الديالكتيك، والتأثير المتبادل أحد سماته، والتي هي متضمنة في مقولة «الانعكاس» أيضاً، فلذلك ليست العملية أو الوجود الاجتماعي فقط هو الذي ينعكس في محتوى وبنى الوعي الاجتماعي، بل وإنّ المكمّل الديالكتيكي الطبيعي لهذا هو أن عملية معاكسة تجري أيضاً بالاتجاه المضاد: تأثير الوعي الاجتماعي على محتوى وبنية الوجود الاجتماعي. وهاتان العمليتان ينبغي دوماً أخذهما بالحسبان معاً، كما يؤكد لينين، الذي حدّد ذلك بأنه «جوهر الديالكتيك». وهنا يقف لينين بحزم ضدّ أولئك الذين يبتذلون الماركسية في جمودٍ عقائدي، وبأخذها بشكلٍ أحادي الجانب وأحادي الاتجاه (أي ميتافيزيكياً وليس ديالكتيكياً)، مركّزين فقط على مبدأ انعكاسٍ باتجاه واحد، حيث يجتزئون من التراث الفكري والفلسفي اللينيني، فقط تلك المقاطع التي كان لينين يركز فيها- وبشكلٍ مبرّر تماماً في إطار محدَّد للصراع مع المثالية- على الجانبين الأونطولوجي والإبستيمولوجي للوعي كانعكاسٍ للمادة، في تعريفه للمادة والوعي في كتابه «المادية والمذهب النقدي التجريبي»، حيث لا يجب أن يفهم من التعريف اللينيني للمادة وعلاقتها بالوعي بأنّ الوعي مجرد انعكاسٍ «مرآتي» أو نسخة «فوتوغرافية» أو «كربونية» عن المادة، بل يجب تكملة فهم العلاقة الديالكتيكية بين المادة والوعي، كما يستنتج بوضوح من لينين في مخطوطات دفاتره الفلسفية، وكذلك في أعماله التاريخية والاجتماعية والسياسية، بأنّ الوعي يمكن أن ينخرط بشكل فعّال وخلّاق في تغيير الواقع المادي. هذه الفكرة بالطبع راسخة عند ماركس من قبل، كما نتذكر من عبارته الشهيرة في مقدمته لنقد فلسفة الحق الهيغيلية عندما كتب: « إنّ «الفكرة أيضاً تتحوّل إلى قوّة مادية عندما تستحوذ على الجماهير». كما ونجد لدى لينين في دفاتره الفلسفية يؤكد مجدداً على أنّ «وعي الإنسان لا يعكس العالَم الموضوعي فحسب، بل ويخلقه». فوعي البشر في نهاية المطاف انعكاسيّ- قصديّ وتأمّلي وتنبّؤيّ، إنه ليس منفعلاً فقط بل فاعلٌ أيضاً.

خلاصة

بوصفه منهجاً علمياً، فإنّ الديالكتيك المادّي مطبقّاً على المجتمع هو طريقة في دراسة ظواهر الوجود المادي الاجتماعي وأفكار الوعي الاجتماعي من خلال:
1- تحديد التناقضات القائمة الداخلية والخارجية في الظاهرة، من خلال بحثٍ تجريبي، والتي يقود تركيبها إلى التغيير والتطور للموضوع قيد الدراسة من الناحيتين الكمية (الارتقاء المتدرّج) والكيفية (الثورة).
2- تحليل صراع هذه المتناقضات والأضداد (الطبقية بالدرجة الأولى) يكشف عن الآليات التاريخية للظواهر الاجتماعية، بمعنى نشوئها وسيرورتها وموتها (أو تحوّلها إلى حالة مغايرة).
3- يمكن بالنظر إلى الانتقال من النشوء إلى الموت، ملاحظة تلك البذور أو اللحظات أو الميول القادرة بتطوّرها أن تدمّر الوضع القائم من داخله، وتؤدي إلى بزوغِ الجديد.
4- وبذلك نتمكن من القيام بتنبؤات وتوقعات علمية واقعية تتعلق بالبدائل على مدى المستقبل القريب والبعيد.
5- من خلال التنبؤ المستند إلى التحليل العلمي، يصبح ممكناً تنفيذ الممارسة الاجتماعية المناسبة: سواء البنّاءة، أو الهدّامة (للعلاقات الرأسمالية ونواتجها مثلاً).

وظائف العلم التحرّري

إنّ الماركسية- اللينينية هي علمٌ تحرُّري يلعب دوراً وظيفياً في بناء مجتمع جديد. الوظائف الأساسية لهذا العلم هي: 1- تطوير تشخيص تفصيلي للمنظومة وانتقاد العالَم القائم. 2- وضع التصورات عن البدائل القابلة للحياة. 3- تطوير نظرية الانتقال. وبتعبيرات أخرى، إنه علمٌ يخبرنا لماذا نريد تغيير هذا العالَم الذي نعيش فيه، وإلى أيّ مستقبل يجب أن نسعى، وكيف نتوصل إليه.

(الجزء الأول)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1145
آخر تعديل على الأحد, 04 شباط/فبراير 2024 11:32