هل يغير الفقر الجينات؟
بروس ماكوين بروس ماكوين

هل يغير الفقر الجينات؟

إن كان الجسد يعمل مثل الأوركسترا، فالدماغ هو قائدها. فهو يخزّن الذكريات المستخلصة من التجارب السيئة وكذلك الجيدة، ويعمل مع الجسد لإبقائنا أحياء عبر تقليل التأثيرات الخفيّة وطويلة الأمد التي تسبب «الحمل وزيادة الحمل الاستتبابي Allostatic load and overload» (وهو زيادة استهلاك الجسم بتحميله فوق طاقته نتيجة اختلال توازن الوسطاء الكيميائيّين-الحيويّين مثل الأدرينالين والكورتيزول وبقاءها نشطة في الجسم أكثر ممّا ينبغي – لمعلومات أكثر: انظر مقال التوتّر السام – قاسيون). وإنّ ما ندعوه «حكمة الجسد» يشير من جديد إلى الاستتبابيّة: العملية النشطة من التكيّف البيولوجي ودورها في الحفاظ على الاستتباب في الجسد والعقل. في الواقع إنّ الدماغ عضو لدن وسريع التأثّر، ويتمّ تشكيله باستمرار من قبل الخبرات. إنّه يغيّر تصميمه ووظيفته كجزء من الاستتباب. تظهر إحدى الدراسات كيف أنّ هيكل دماغ إحدى الأمهات قد تمّ نحته أثناء فترة الحمل كجزء من تشكيل التعلّق بالطفل. وتظهر دراسات أخرى كيف أنّ أدمغة الموسيقيين تتطوّر وبها مهارة أكبر تقود إلى زيادة حجم الخلايا العصبيّة، وتعزز الاتصال بين المناطق الحسيّة والحركيّة في القشرة الدماغيّة.

تعريب: عروة درويش

إن كان الجسد يعمل مثل الأوركسترا، فالدماغ هو قائدها. فهو يخزّن الذكريات المستخلصة من التجارب السيئة وكذلك الجيدة، ويعمل مع الجسد لإبقائنا أحياء عبر تقليل التأثيرات الخفيّة وطويلة الأمد التي تسبب «الحمل وزيادة الحمل الاستتبابي Allostatic load and overload» (وهو زيادة استهلاك الجسم بتحميله فوق طاقته نتيجة اختلال توازن الوسطاء الكيميائيّين-الحيويّين مثل الأدرينالين والكورتيزول وبقاءها نشطة في الجسم أكثر ممّا ينبغي – لمعلومات أكثر: انظر مقال التوتّر السام – قاسيون). وإنّ ما ندعوه «حكمة الجسد» يشير من جديد إلى الاستتبابيّة: العملية النشطة من التكيّف البيولوجي ودورها في الحفاظ على الاستتباب في الجسد والعقل. في الواقع إنّ الدماغ عضو لدن وسريع التأثّر، ويتمّ تشكيله باستمرار من قبل الخبرات. إنّه يغيّر تصميمه ووظيفته كجزء من الاستتباب. تظهر إحدى الدراسات كيف أنّ هيكل دماغ إحدى الأمهات قد تمّ نحته أثناء فترة الحمل كجزء من تشكيل التعلّق بالطفل. وتظهر دراسات أخرى كيف أنّ أدمغة الموسيقيين تتطوّر وبها مهارة أكبر تقود إلى زيادة حجم الخلايا العصبيّة، وتعزز الاتصال بين المناطق الحسيّة والحركيّة في القشرة الدماغيّة.

وعلى عكس الموسيقى والأمومة، يمكن للتوتّر السام «Toxic stress» (التوتّر الذي لا نستطيع التعامل معه) أن يزيد القلق عبر إحداث عصبونات في اللوزة المخيّة، وهي المنطقة في الدماغ التي تسيطر على القلق والاعتداء، فتصبح أكبر. يمكن للممارسات الذهنيّة مثل التأمّل أن تعكس العمليّة وأن تقلل من حجم تلك العصبونات، ومعها التوتّر. وتحدث النشاطات البدنيّة المنتظمة، مثل المشي يوميّاً، خلايا عصبيّة جديدة في الحصين «hippocampus»، وهي منطقة الدماغ الأساسيّة من أجل الذاكرة اليوميّة والتوجّه المكاني، وهي تحسّن كذلك الذاكرة والمزاج.

يجب علينا أيضاً أن ننظر أين تتلاءم جيناتنا، وأن ندرك بأنّها لا تحدد مصيرنا بشكل صارم، بل توفّر الأساس الذي تتشكّل فوقه أدمغتنا وأجسادنا على مدى الحياة من خلال آليات التخلّق «epigenetic»، التي تتعامل أبعد من الجينات بحيث تسيطر على سيماء الجينات دون تغيير الشيفرة الوراثيّة «genetic code». يقود التخلّق المتوالي الاندماج المتواصل للسمات، سواء أكانت جيدة أم سيئة، وتعمل على شيفرتنا الوراثيّة طول مدّة حياتنا. نحن نفهم الآن بأنّ التخلّق المتوالي هو الوسيلة التي يعمل من خلالها التوتّر على الجسم وعلى مجموع الجينات في الكائن (الجينوم) وعلى الدماغ.

لقد درّسني فينسنت أولفري وألفريد ميرسكي أساسيات علم التخلّق «epigenetics» في ستينيات القرن الماضي قبل أن يكون هناك أيّ اهتمام به، وذلك عندما كان علم التخلّق يعني شيئاً مختلفاً كليّاً، وهو: ظهور السمات في البيضة الملقحة التي تطورت إلى كائن حي. تمّت ترجمة التطوّر من مرحلة الجنين إلى المرحلة المستقلة لدى جميع الأنواع، لكنّ السمات الفرديّة التي تظهر تتأثّر بالتجربة، ومن هنا يأتي الاستخدام الحديث لكلمة «علم التخلّق». مثال: توأم متطابق مع جينات تجعلهما عرضة للفصام أو لاعتلال ازدواج الشخصيّة. حتّى عند الأخذ بالاعتبار أنّ لهما ذات الحمض النووي DNA، فإنّ احتمال تطوير أحد هذين التوأم المرض بعد إصابة الآخر به يتراوح فقط بين 30 و60%، وهو ما يترك مساحة كبيرة لعامل التجربة وللعوامل المحيطة الأخرى، من أجل إمّا منع أو التعجيل بالإصابة بالمرض.

لقد درس أولفري وميرسكي بروتينات تدعى «هيستون Histone»، وهي التي تحزم وتنظم الحمض النووي. يمكن تعديل الهيستونات كيماوياً كي تحلّ اللولبيات المزدوجة، ممّا يسمح للجينات بأن تكون معبّرة. أظهر الباحثون في حوالي عام 1960 بأنّ الهرمونات من أمثال الكورتيزول والأويستراديول، تستخدم هذه الآليّة لتفعيل الجينات في الرحم والكبد، وأصبح هذا محور عملي عام 1966.

وقد حوّلت تركيزي منذ فترة طويلة من الكبد إلى الدماغ. فكما هو الأمر مع الكورتيزول والكبد، فإنّ هرمونات الغدد الكظريّة والتناسليّة قد تحوّل التعبيرات الجينيّة في الدماغ، وتعمل بشكل متآزر مع وسطاء كيميائيين-حيويين آخرين، لتغيير هيكل الدماغ ووظيفته. لأنّ التجربة نفسها تتأثّر بهذه الهرمونات، وتقولب التجربة ما نسميه الآن «آثار التخلّق المتوالي epigenetic effects».

قاد هذا إلى اكتشاف أنّ الكورتيزول، بوصفه هرمون التوتّر الكظري، يعمل بشكل تخلّقي على بنية دماغيّة تدعى الحصين «hippocampus»، والتي نعلم اليوم بأنّها تتواسط ذكريات الأحداث اليوميّة في المكان والزمان، وتنظم المزاج أيضاً. بعبارة أخرى: الحصين يعمل مثل جهاز تحديد المواقع «GPS» بالنسبة للدماغ. وقد حصل علماء الأعصاب جون أوكيف وماي بريت وإدفارد موسر على جائزة نوبل عام 2014 بسبب هذا الاكتشاف. 

ومنذ ذلك حين، بات الحصين هو المدخل لتعلّم كيفيّة دخول هرمونات الجنس وهرمونات الأيض وهرمونات التوتّر إلى الجسم، وترتبط بالمستقبلات وتتصرّف بشكل تخلّقي على التنظيم الإيجابي الهيكلي ولتؤثّر على سلوكنا. لقد ساعدتنا كذلك على دراسة ظروف التوتّر السام عندما تساهم ذات الهرمونات والوسطاء بزيادة الحمل الاستتبابي. عندما يحدث ذلك يتمّ استهداف أعضاء الجسم، ومن ضمنهم القلب والدماغ، لتخريبهم بواسطة عاصفة سميّة.

لقد درس رون دي كلوت، الذي كان طالباً مميزاً بمختبري وهو بروفسور في جامعة ليدن في الوقت الحالي، تأثير الغلوكوز القشراني «الغلوكؤكورتيكويدات Glucocorticoids» التخليقيّة «Synthetic»، التي تعمل كمثبطات قويّة للالتهابات وللوظيفة المناعيّة، وكمحفّز لأيض الجلوكوز في الكبد (ومن هنا جاء اسم غلوكؤكورتيكويدات). إنّ الكورتيزول هو غلوكؤكورتيكويد طبيعي، وقد وجد كلوت بأنّ الغلوكؤكورتيكويدات التخليقيّة، مثل دواء ديكساميثاسون DEX، يتم استبعادها بنشاط من الدماغ أثناء دخول الكورتيزول. لكن عندما يؤخذ هذا الدواء لتعليق الالتهاب، فإنّ بإمكانه أن يوقف قدرة الجسد على إنتاج الكورتيزول. وعليه، عندما العلاج باستخدام DEX، تصبح قدرة الجسد والدماغ على إنتاج الكورتيزول أقل، ممّا يتسبب بتقلبات شديدة في المزاج وفي الأيض وبتعطيل المناعة. بعد ذلك، أظهر كلوت مع تلميذه هانس ريول الذي أصبح بروفسوراً في جامعة بريستول، بأنّ الكورتيزول في الحصين يرتبط بنوعين من المُستقبلات، يسميان MR وGR، من أجل القيام بعدد هائل من الأفعال الهامّة في الدماغ.

وقد أحرز روبرت سابولسكي، أثناء كونه تلميذاً في مختبري وبعد أن أصبح بروفسوراً لامعاً في جامعة ستانفورد، تقدماً هاماً آخر. اكتشف بأنّ معادل الكورتيزول لدى الجرذان، ويسمّى كورتيستيرون «corticosterone»، يتسبب تدريجياً باستهلاك الحصين وبلاه، ليضعف بذلك الذاكرة والمزاج وكذلك القدرة على إيقاف إنتاج الغلوكؤكورتيكويدات. يبدو هذا التأثير بشكل أكثر وضوحاً في الحيوانات والبشر الذين اختبروا توتراً سامّاً. إنّ فرضيّة «شلال الغلوكؤكورتيكويدات الخاصّة بالتوتّر والتقدّم بالسن»، كما يتمّ تسميتها، هي الأساس لمفهوم الحمل والحمل الزائد الاستتبابي. لقد أرسى سابولسكي أيضاً الأساس لكيفيّة تأثير الدخل والتعليم والتسلسل الهرمي الاجتماعي على الصحّة البدنية والعقلية.