حديث الغرب عن استعداده لخوض حرب عالمية: «فاشوش»
مالكوم كايونه مالكوم كايونه

حديث الغرب عن استعداده لخوض حرب عالمية: «فاشوش»

كلّ الحروب تنتمي إلى زمان ومكان، ومثلما انتهى زمن قدرة رماة الأقواس الطويلة من ويلز على هزيمة النبلاء الفرنسيين، فقد انتهى زمن بناء الولايات المتحدة لآلاف السفن الحربية وعشرات آلاف الطائرات التي يمكن إرسالها إلى المحيط الهادئ. الحرب العالمية الثالثة لن تأتي، وهي حقيقة لم يعد من الممكن إنكارها. البديل بالنسبة للغرب هو الشركات الأمنية الخاصة، والبلدان الوكيلة، والحركات التخريبية مثل النازيين الجدد والمتطرفين الإرهابيين. هذه هي قواعد حرب الطور الرأسمالي الجديد الذي فقد فيه الغرب صناعته، وهذا ما يقرّ به الغرب نفسه.

ترجمة: قاسيون

في الفترة التي سبقت الأزمة المالية 2008، كان العالم الغربي في أوج لحظة القطب الواحد. تم اعتبار القوة والهيمنة الأمريكية أمراً مفروغاً منه، وكانت لا تزال الدول التي أصبحت اليوم المنافسة الألدّ للولايات المتحدة – روسيا والصين– على طريق الاندماج في النظام الاقتصادي والسياسي الغربي.

كنتيجة لذلك رأى مخططو الدفاع الغربيون طريقين فقط يمكن للغرب أن ينخرط فيهما في القتال في السنوات التالية، الأول، رأى الغرب نفسه منخرطاً في تدخلات قصيرة وحادة صادمة عالية التقنية ضدّ «الدول المارقة»، مثل كوريا الشمالية وليبيا وإيران. ثانياً، سُيشارك الغرب في «مهام حفظ السلام»، فيخوض معارك مختلفة لمكافحة التمرد في زوايا أكثر ظلمة من العالم، وكلّ ذلك من أجل «خدمة البشرية» بتسليمه الديمقراطية الليبرالية ونموذج اقتصاد السوق الذي عليهم أن يرحبوا به باعتباره الكلمة الأخيرة في التنمية السياسية والاجتماعية البشرية. في عصر ما بعد نهاية التاريخ، كانت هذه هي الطريقة التي تخيل الغرب فيها نفسه يخوض الحروب.

لكنّ هذه الأحلام باتت من الماضي اليوم، والأسوأ على الغرب الجماعي أنّهم بدوا في عام 2023 مجرّد حمقى يأخذون بلادهم نحو الانتحار. أظهر الصراع في أوكرانيا بأنّ الحرب الصناعية قد عادت. في الحقيقة، ربّما يكون من الأدق القول بأنّها لم تختفِ على الإطلاق. تمّ الاستهزاء بروسيا باعتبارها اقتصاداً بحجم بلجيكا وهولندا في بداية الحرب، وكان الخبراء في جميع أنحاء الغرب على يقين من أنّ مثل هذا الاقتصاد الصغير نسبياً لا يمكن أن يتحمّل صراعاً طويل الأمد. سوف تنفد الصواريخ من الروس، وبعد ذلك ستنفد القذائف، ثمّ في نهاية المطاف لن يتبقى لديهم رصاص أو قنابل يدوية أو حتّى مجارف.

ثمّ بعد عام ونصف تقريباً من الحرب في أوكرانيا، تبيّن بأنّ الحقيقة عكس ذلك. فالناتج المحلي الإجمالي من حيث القيمة الدولارية بدا بلا قيمة عندما يتعلّق الأمر بالحرب، لأنّ قذائف المدفعية مصنوعة من الصلب وليس من ورق المال. لهذا ثبت بأنّ امتلاك صناعة الصلب دون مال يعني الكثير، بينما امتلاك المال الورقي دون صناعة ومصانع لا يعني شيئاً. إرسال الولايات المتحدة لقنابل عنقودية إلى أوكرانيا– وهو سلاح مثير للجدل لم يتمّ حظره في معظم بلدان الناتو– يشي بالحقيقة. ليست مهمة الدلالة الأخلاقية هنا، بل ما يشي به هذا السلوك عن وضع الولايات المتحدة نفسها، أكبر اقتصاد في العالم لم يعد لديه تقريباً أيّ ذخائر تقليدية لإرسالها إلى أوروبا. لهذا تبحث عميقاً في مخزونها الخاص وفي مخزون أيّ دولة حليفة على هذا الكوكب.

في عام 2017 كان ردّ فعل واشنطن على تعليقات دونالد ترامب بشأن الصين– بالقول بأنّها المنافس الأكبر، وأنّها كانت تتنمّر على أمريكا، وأنّها التهديد الحقيقي– مزيجاً من الاستهزاء وعدم التصديق. بعد ستّ سنوات فقط، أصبحت مناقشة الحرب القادمة مع الصين هواية بين الحزبين. بصورة متزايدة يمكننا سماع الأمريكيين يتحدثون عن كون الحرب لا مفرّ منها. من المصطلحات المتداولة جداً اليوم في العاصمة واشنطن، «نافذة ديفيدسون»، وهو المصطلح الذي سمي تيمناً بالأدميرال فيليب ديفيدسون، القائد السابق للقيادة الأمريكية في منطقة الهندي والهادئ، والذي عيّنَ عام 2027 بوصفه العام الأكثر احتمالاً لنشوب الصراع حول تايوان. في مناظرة اشترك فيها ممثلان عن الجمهوريين والديمقراطيين في المركز الأمريكي للدراسات الإستراتيجية، تصرّف عضوا الكونغرس أعضاء لجنة الجيش وكأنّ الحرب مع الصين هي نتيجة حتمية. يعبّر هذا عن الاتفاق بين الحزبين بأنّ محاولة تجنّب حرب القوى العظمى هو مضيعة للوقت، لأنّ الحرب لا مفرّ منها.

مجرّد حديث غربي تافه

كانت الحرب العالمية الثانية هي الحرب الصناعية الأخيرة، ولذا فقد حرضت القوة الإنتاجية الكاملة لأعظم قوى العالم ضدّ بعضها البعض. لم يتمّ إنتاج أيّ غسالات أو طرز سيارات جديدة خلال ذروة المشاركة الأمريكية في الحرب، تمّ تسخير القدرة الصناعية بالكامل لتدمير قوى المحور. أنتجت مصانع آلات الطباعة بنادق إم.1 بكميات لا حصر لها، وأصبح مصنعو السيارات مصنعي دبابات بين عشية وضحاها، لكنّ أياً من ذلك لم يعد ممكناً بالنسبة للدول الغربية.

لنأخذ بريطانيا على سبيل المثال. فقدت البلاد أكثر من خمسة عشر ألف دبابة خلال الحرب العالمية الثانية. اليوم، تمتلك بريطانيا أقلّ من مئتين وخمسين من دباباتها القتالية الرئيسية، وحوالي ثُلث تلك الدبابات لم تعد تعمل. نظراً لأنّ المملكة المتحدة لم تعد لديها أيّ قدرة على بناء دبابات جديدة «تمّ إغلاق آخر مصنع للدبابات في عام 2010»، فالحصة الكبرى من الدبابات المتبقية موجودة ليتمّ «تفكيكها» لوضع قطع الغيار فيها. ما بين عامي 2010 و2014، تخلّصت وزارة الدفاع من 43 دبابة من طراز تشالنجر 2، والتي تشكّل الجزء الأكبر من القوات المدرعة البريطانية، من خلال وضعها «خارج أيّ إصلاح اقتصادي».

هل يمكن لبريطانيا أن تشارك في صراع القوى العظمى الذي تصوّره واشنطن؟ بالتأكيد، طالما تمّ خوض المعركة بالقرب من الجزر البريطانية، وأن يتفق جميع المتحاربين بكلمة شرف النبلاء ألّا تستمرّ أكثر من أسبوعين! فبعد تلك النقطة ستكون قد نفدت مخزونات الذخيرة البريطانية، ولم يعد لديهم أيّ مصانع آلات كاتبة وصناديق موسيقى لتحويلها إلى المجهود الحربي، ولا موظفين مدربين للعمل في تلك المصانع أيضاً. ليس بريطانيا فقط، فالبنتاغون يقدّر أنّ قدرة بناء السفن الصينية أكبر 200 مرة من قدرة الولايات المتحدة، ولا توجد طريقة لسدّ هذه الفجوة. على سبيل المقارنة، كانت الهوة بين اليابان والولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية مجرّد عشر مرات إلى عشرين مرة لصالح الولايات المتحدة. إنّ الاعتقاد بأنّ الأمريكيين قد يدخلون معركة مع الصين باستخدام نفس الأدوات التي حاربت وفازت بها في الصراعات الصناعية السابقة يعبّر عن الفشل في فهم مدى تغيّر العالم.

بمجرّد إلغاء التصنيع لم يعد بإمكان الغرب الانخراط في حرب تتضمن استخدام وخسارة عشرات الآلاف من الدبابات والطائرات والعربات المدرعة، واستخدام مئات الملايين من القذائف المدفعية. هذا لا يعني أنّ الحرب مستحيلة، كانت هناك العديد من الحروب، الكبيرة والصغيرة، التي تمّ خوضها في وسط إفريقيا لا تزال في الذاكرة الحية. لكن الحرب الصناعية؟ لا، هذا يخص دولاً ذات قواعد صناعية كبيرة، وكي يتمكن الغرب من بناء المستوى الذي كان عليه في 1960 على أقرب تقدير، فسيستغرقه الأمر على الأقل جيلاً للتراجع عن إلغاء التصنيع، وهي الفترة التي استغرقها لإلغائه. هذا طبعاً في حال كان بالإمكان التراجع عن إلغاء التصنيع.

بتصرّف عن:
The West can no longer make war

معلومات إضافية

العدد رقم:
1135