الحبوب الروسية والمضاربة وفوات النفع الاقتصادي والسياسي
إيلينا بوتيرينا إيلينا بوتيرينا

الحبوب الروسية والمضاربة وفوات النفع الاقتصادي والسياسي

تراجعت سوق الحبوب العالمية بعد إنهاء روسيا لصفقة الحبوب بسبب عدم وفاء الأمم المتحدة بالتزاماتها. تثير الأسعار المتزايدة والتوسّع الجغرافي للصادرات الروسية قلق الغرب الذي وضع أهدافاً معاكسة تماماً لما حصل. في الحقيقة، سيطرت روسيا بوصفها أكبر مورّد للحبوب على السوق العالمية. لكن بينما تحاول بعض الدول شنّ حملة هجوم على موسكو بذريعة إيقافها إمداد الحبوب «للمحتاجين»، ويستعد آخرون لإبرام اتفاقيات شراء مباشرة مع روسيا، هنالك من يريدون الاستفادة من الوضع لصالحهم من أجل كسب المزيد من المال.

ترجمة: أوديت الحسين

كانت روسيا قد علّقت الاتفاق مراراً ردّاً على عدوان أوكرانيا، لكنّها جددته بعد ذلك، ومددته بناء على طلب الأمم المتحدة وتركيا. لكن ليس هذه المرة. تمّ جرف «الممر الإنساني» في مياه البحر الأسود مثل الوعود الفارغة الأخرى للأمم المتحدة، وأعلنت موسكو عن استعدادها لتزويد الدول المحتاجة بحبوبها. في الواقع تملك روسيا جميع القدرات والموارد اللازمة لذلك، وذلك على الرغم من العقوبات الغربية عليها. إنّ نمو صادرات الحبوب الروسية اليوم تدعمه وفرة الحصاد والاستعداد للتعاون مع شركاء اقتصاديين جدد. في 2022 سجّلت الدولة الروسية محصولاً قياسياً للحبوب بلغ 157.7 مليون طن، متجاوزاً بشكل كبير الحدّ القياسي السابق البالغ 135.5 مليون طن الذي تمّ تسجيله في 2017. في الوقت ذاته زادت صادرات المنتجات الحائزة على شهادات زراعية/نباتية بنسبة 5٪ لتصل إلى 53.9 مليون طن. إنّ التراجع عن المتوسط الذي كان سببه الضغوط والصعوبات التي واجهها اللوجستيون وشركات التأمين والبنوك لم تعد موجودة، فقد تكيفت شركات الحبوب الروسية مع ظروف العمل الجديدة، لتسجّل روسيا رقماً قياسياً في تصدير الحبوب.

من الواضح بشكل لا يقبل التشكيك أنّ الحبوب الروسية لديها إمكانات هائلة للتصدير إلى الأسواق العالمية، ولا يمكن لأيّ عقوبات أن تدفعها خارجاً. إن كانت 126 دولة قد اشترت منتجات الحبوب الروسية في 2022 وفقاً لتقديرات Rosselkhoznadzor، ففي هذا العام 2023– نظراً لانخفاض أسعار التصدير والجودة المرتفعة، توسّعت قائمة المشترين إلى قرابة 160 دولة، من بينها باكستان وبنغلاديش ذات الكثافة السكانية المرتفعة والتي كانت تشتري الحبوب سابقاً من أستراليا. من أجل توسيع جغرافيا المبيعات، تعتبر روسيا القارة الإفريقية مستورداً مباشراً وقد ناقشت معها مؤخراً بشكل مفتوح فرص التجارة في أسواق الغذاء والطاقة. بحسب اتحاد مصدّري الحبوب، فقد زادت الصادرات إلى الدول الإفريقية خلال العام الزراعي الماضي بنسبة 63٪ لتصل إلى 17.5 مليون طن. وحتّى دول مثل الجزائر وليبيا ازدادت وارداتها من الحبوب إلى أحجام قياسية، فارتفعت واردات الجزائر من 28 ألف طن إلى 2.1 مليون طن، وليبيا من 225 ألف إلى 1.3 مليون طن.

من المتوقّع أن تقوم السلطات الحكومية الروسية بتخفيض أو إعادة تعيين رسوم التصدير مؤقتاً عند التسليم للدول الصديقة، وكذلك زيادة الحصة الخاصة للتصدير المعفاة من الرسوم التي يتمّ تحديدها منذ عام 2020 لتنظيم الأسعار العالمية، حيث ازدادت 2.3 مرة هذا العام لتصل إلى 25.5 مليون طن بعد أن كانت 11 مليون طن. سيسمح هذا بزيادة إمدادات الحبوب في اتجاهات مختلفة. لكن ماذا عن مضاربات السوق التي يتوقّع أن تزداد بزيادة تصدير روسيا للحبوب؟ هل سيتمكن هؤلاء من الحصول على الحبوب الروسية الأرخص ثمناً بغرض إعادة بيعها لاحقاً مقابل تكلفة إضافية لدول ثالثة؟ المشكلة الأخرى مع هؤلاء المضاربين أنّهم لا يجنون الأرباح فحسب، بل تصبح لديهم القدرة على تنظيم السوق لصالحهم.

المضاربة على الحبوب الروسية

إنّ انسحاب روسيا من صفقة الحبوب ليس مربحاً للجميع، أولاً، الغرب الذي «يشعر بالأسف للدول الفقيرة» رغم أنّه يفضّل تلقي الحبوب الأوكرانية بدلاً من هذه الدول. ثانياً، أنقرة التي تسعى جاهدة إلى استئناف الصفقة عبر التوسط في حوار حولها. وفقاً لأندريه سوزدالتسييف، الأستاذ المشارك في كلية الاقتصاد العالمي والسياسة العالمية في المدرسة العليا للاقتصاد، «الصفقة بحدّ ذاتها كانت مربحة بشكل هائل بالتأكيد. اشترت تركيا 30٪ من الحبوب التي تمّ توريدها من أوكرانيا. حبوب رخيصة وبنوعية جيدة... في ظلّ هذه الظروف، كانت تركيا تشتري أيضاً الحبوب الروسية بأسعار أدنى من الأسعار العالمية، ليس بشكل يغرق السوق، بل فقط بثمن أدنى. كانت تركيا تشتري الحبوب وتعيد بيعها إلى إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، لكنّها عالجت أيضاً الحبوب الروسية والأوكرانية، فتركيا تملك صناعة طحن دقيق متطورة للغاية. كما أنّها استفادت من ذلك بالمعنى السياسي. كانت تركيا تتلقّى الحبوب الروسية والأوكرانية، الأمر الذي تحلم بحدوثه منذ 400 عام، فهو شرط رئيس لتنظيم سوق الحبوب العالمية».

تفيد المعلومات بأنّه بعد إنهاء صفقة الحبوب، تحاول أنقرة جني الأرباح الضائعة من خلال كازخستان لكونها أكبر شريك اقتصادي لروسيا في المنطقة، وكذلك عضو في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي يسمح لها باستيراد المنتجات الروسية المعفاة من الرسوم الجمركية. الفكرة أن تشتري أستانا الحبوب الروسية زهيدة الثمن ثمّ تعيد بيعها بأسعار متضخمة عبر أنقرة. جرّب رجال الأعمال الكازاخستانيون بالفعل تحضير خطّة للاستفادة من إلغاء صفقة الحبوب لصالحهم بالتشارك مع نظرائهم الأتراك. كما صرّح الممثل الرسمي «لاتحاد الحبوب الكازخستاني» إيفجيني كارابانوف: «يتمّ اليوم استيراد الحبوب الروسية الأرخص إلى كازخستان بشكل غير قانوني عن طريق البر باستخدام شركات اليوم الواحد التي تصرّح عن مستورداتها بشكل غامض وغير دقيق. يتمّ بعد ذلك معالجة هذا القمح داخل البلاد إلى دقيق، أو تصديره إلى دول أخرى على أنّها منتجات كازخستانية. تقدّر هذه الواردات غير القانونية ما بين 1.5 و2 مليون طن من القمح سنوياً، ومن المتوقع أن ترتفع في عام 2023 بعد إنهاء صفقة الحبوب». لكن من أجل الحد من هذه التجارة غير القانونية وحماية المنتجات الكازخستانية، فرضت وزارة الزراعة الكازخستانية حظراً على الاستيراد عبر البر حتّى تشرين الأول، وهناك دعوات لتمديده. يناسب هذا الحظر روسيا أيضاً، وهي التي يحرمها هذا النوع من التصدير من أرباح أعلى تحصل عليها من التصدير القانوني.

يسوّق الكثير من السياسيين الكازخاستانيين بأنّهم قادرون على لعب دور الوسيط المضارب على الحبوب الروسية دون الحاجة لمشاركة تركيا، وذلك سواء لبيعه لأوروبا أو للصين، ويضغطون على الحكومة لتسهيل حصول هذا الأمر. لكن في الواقع إنّ تصدير الحبوب بهذه الكميات سيحتاج إلى الموانئ الروسية من نوفوروسيسك، وهو أمر معقد بسبب ارتفاع تكاليف التأمين. أمّا التصدير إلى الصين عبر كازخستان فممكن فقط عبر شينجيانغ التي تتمتّع أستانا بعلاقات معروفة معها، ولكن يشكك سوزدالتسييف في إمكانية حدوث ذلك بسبب صعوبة تخزين الحبوب في صناديق ثمّ تصديرها بسبب خطر التعفن.

في النهاية، لن تستفيد روسيا من المضاربة واسعة النطاق على قمحها، وسيحقق ذلك في حال حدوثه آمال الغرب الذي يخشى قدرة روسيا على إيصال توريدات زهيدة وعالية الثمن إلى الدول المحتاجة، وليس للغرب الذي يمكنه أن يدفع أكثر. لهذا قد يكون ردّ روسيا على تصرفات المضاربة توسيع الشراكات المباشرة مع الصين وإيران وإفريقيا لإيصال الحبوب إليها بشكل مباشر، وقد يصل الأمر إلى تقييد الصادرات إلى كازخستان أو تركيا. علينا أن ننتظر ونرى كيف ستقوم روسيا بتنظيم بيع حبوبها، واستجابتها لمحاولات المضاربة المفرطة التي قد تحرمها من منافع اقتصادية، وسياسية أيضاً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1135