التقاعد المبكر.. تسريح جماعي للعمال

أخذت الصحافة الرسمية بإعادة طرح قانون التقاعد المبكر على صفحاتها، مذكرةً أولي الأمر، ومتسائلة عن الأسباب الكامنة وراء إعادة القانون إلى الأدراج، بعد أن أثار طرحه، منذ عامين، الكثير من الجدل، بين مؤيد له ورافض، وكل له دفوعاته التي يبرر بها رفضه أو قبوله، ويبقى السؤال المشروع: ما الهدف من طرح هذا القانون، وما انعكاسات تطبيقه على العمال، وعلى القطاعات الإنتاجية؟؟

لقد اتفقت الآراء التي عبرت عن وجهة نظرها بهذا القانون في الصحافة الرسمية، على أهمية إقرار هذا القانون بالسرعة الكلية، لأنه سيساهم بحل جزء من مشكلة البطالة، ودخول دماء جديدة تحمل مؤهلات علمية، يمكن لها أن تطور الإنتاج وتزيده، وكذلك الخلاص من فائض العمالة، حيث يحمَّل هذا الفائض، الخسارات التي يتعرض لها القطاع العام، بسبب ما يُدفع لهم من رواتب وأجور، مسببين في الوقت نفسه تدني إنتاجية العمل، وتدني مستوى الأداء الحكومي. بالإضافة إلى أن تطبيق القانون يحرر الدولة من الالتزام الاجتماعي بتشغيل طالب العمل دون حاجة إلى خدماته!.
إن وراء الأكمة ما وراءها، من إعادة طرح هذا القانون على مجلس الشعب لإقراره، خاصة مع تحسين الامتيازات، كالمزيد من الرشاوى التي تقدم للعمال الراغبين في التقاعد على أساس هذا القانون، وكأن هذا القانون في حال تطبيقه سيكون خشبة الخلاص لأزمة البطالة، وزيادة الإنتاجية، وفائض العمالة، وتطوير الأداء الحكومي، الذي يعرقله هؤلاء العمال، والذي سيتحسن إذا ما أحيلت أعداد كبيرة من العمال على التقاعد.
كل هذا لا بد أن يتماشى مع الدور الجديد للدولة، بانتقالها من نظام التخطيط المركزي إلى اقتصاد السوق، كما أكد الخبير المالي عبد القادر حصرية، الذي أضاف: (إن هناك خللاً كبيراً في دور الدولة في الاقتصاد، وهذا يتطلب إعادة هيكلة عدد من المؤسسات الإدارية العامة، لتستطيع القيام بدورها في النظام الاقتصادي الجديد، وبدون ذلك يصعب تصور نجاح عملية الإصلاح الإداري).
عبد اللطيف شعبان، عضو جمعية العلوم الاقتصادية، قال: (إن تطبيق القانون سيساعد الإدارات على التخلص من بعض العمالة غير المنتجة، وتجديد عمالتها، وسيسهم جزئياً في حل مشكلة البطالة بنوعيها).
د.مطانيوس حبيب أشار: (إن التقاعد المبكر لن يسهم في تخفيض البطالة، لأن المتقاعدين سيبحثون عن فرص عمل جديدة بأجور مخفضة). وتابع: (يجب البحث عن حل على جبهتين في آن:

1 ـ تعديل قانون التقاعد بحيث يسمح بالتقاعد النسبي، بدءاً من بلوغ حد معين من الخدمة، وليكن (15) عاماً مثلاً، دون منح أية مزايا إضافية للعاملين الذي يختارون التقاعد المبكر.

2 ـ العمل بجدية لمكافحة الفساد).
واضح مما قدمنا من آراء مطروحة، أن الحل عند أصحابها ينطلق من عند العمال، في حل أزمة البطالة التي تتزايد، وتتفاقم مع كل طلعة شمس، باعتبارهم العصا التي تعرقل دولاب التنمية، وتطور الاقتصاد الجديد، وتعيق الأداء الحكومي، في قيادتها لتلك العجلة، لأن وجود العمال، وخاصة الفائضين، يضع الحكومة أمام التزامات اجتماعية، لا تتماشى مع دورها الجديد في التخطيط اللامركزي، الذي يتطلب إعادة هيكلة هذا الدور، وفق آليات اقتصاد السوق وقوانينه، ومن ضمنها قانون العرض والطلب، الذي يخضع له كل شيء، بما في ذلك العمال، باعتبار قوة عملهم سلعة يبيعونها في السوق، والسوق يحدد سعرها بناء على كمية المعروض من السلع، والعرض الكبير للبضاعة يعني سعر أدنى. فعندما يجري تسريح أعداد كبيرة من العمال، وفق هذا القانون، يعني عرضاً أكبر لبضاعتهم، إضافة للمعروض في سوق العمل السنوية، حيث سيدفع أرباب العمل سعراً أقل لتأمين أعلى ما يمكن من الأرباح. هذا في حال قبل أرباب العمل والشركات الاستثمارية، شراء كل كمية البضاعة المعروضة (قوة العمل)، وهذا ما لا يمكن تحقيقه، لأن اتجاهات الاستثمار الأساسية هي باتجاه المضاربات العقارية والمشاريع السياحية، التي لا تتطلب أيدٍ عاملة كثيرة. وبالتالي فإن أزمة البطالة التي يمكن حلها كما يدعون: (عن طريق إقرار قانون التقاعد المبكر)، ستتفاقم أزمة البطالة، والتجربة المصرية قريبة منّا، حيث طبقت الحكومة المصرية قانون التقاعد المبكر، فكان من نتائجه زيادة العاطلين عن العمل لما يقارب المليوني عامل، وهذا يعني زيادة بؤر التوتر الاجتماعية التي يشهدها المجتمع المصري.
إن البحث عن حل للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية، بالدعوة إلى تسريحات كبيرة للعمال، وفق قانون التقاعد المبكر، كمن يبحث عن إبرة في كومة كبيرة من القش، خاصة وأن الحكومة، عبر برنامجها الإصلاحي التجريبي،لم تستطع إيجاد حلول حقيقية، تُخرج القطاع العام من حالته الراهنة، التي تزيدها الحكومة تفاقماً، بإجراءاتها المختلفة، بل تركته ليواجه مصيره الذي يرسمه له أعداؤه، فكيف إذا طبقت قانون التقاعد المبكر، الذي سيفرغ المصانع والمواقع الإنتاجية، من خيرة الكوادر التي اكتسبت خبرة خلال سنوات عملها، بالإضافة إلى خسائر مالية كبيرة من أموال التأمينات، قدّرها مدير عام التأمينات الاجتماعية بـ(100 مليار ل.س) خلال خمس سنوات، وخسارة الحركة النقابية لموارد هامة من اشتراكات العمال في القطاع العام...الخ.
إن الحل الحقيقي ليس فيما طُرح في التقاعد المبكر، بل في زيادة دور الدولة بما يلبي المصالح الوطنية للشعب السوري، ومنها زيادة الاستثمار الحكومي، في مشاريع إنتاجية مدروسة ومتكاملة مع بعضها البعض، تستطيع امتصاص جزء مهم من البطالة. وكذلك تستطيع أن تشغّل اليد العاملة المُسمّاة (بالفائضة)، وفق خطط إنتاجية حقيقية، تعكس فائدتها على الاقتصاد الوطني، وعلى تحسين المستوى المعيشي للطبقة العاملة.
هذا أولاً، وثانياً مكافحة الفساد بكل أشكاله وألوانه، وخاصة الكبير منه الذي يجري من خلاله نهب الموارد الضرورية لعمليات الاستثمار الحكومية، التي ستؤدي، في حال توفرها حتماً، إلى تحقيق نمو ينعكس على الطبقات الشعبية الفقيرة، التي تترنح تحت ضغط حاجاتها الأساسية، والتي لا تستطيع تأمينها بسبب غلاء الأسعار الذي يأكل الأخضر واليابس.