عمال البناء : بطالة وعتالة..!

عمال البناء : بطالة وعتالة..!

تضم شريحة عمال البناء في القطاع الخاص غير المنظم أعداداً كبيرة من العمال، على مختلف اختصاصاتهم، من بنائين (معمرجيه) لطيانين وعمال صحية، وكهرباء، وبلاطين، والكثير من الاختصاصات الأخرى، الذين يعملون ضمن أقسى الظروف، هذا في حال كانت المرحلة هي مرحلة بناء وتعمير، لا مرحلة حروب وتدمير.

عمالة سورية للنهضة العمرانية

لطالما خضعت حركة البناء لعمليتي المد والجزر، طوال العقود الأخيرة في البلاد، واختلفت باختلاف السياسات الاقتصادية المعمول بها، وإن كان ما يميز فترة السبعينيات، والثمانيات تصاعد كبير لدور الدولة في عملية الإنشاء العمراني، فتم بناء المعامل الكبرى والسدود والتجمعات السكانية والجسور والبنى التحتية كافة ، بالإضافة للمشافي والمدارس والأبنية الحكومية، ومختلف المرافق الحكومية الأخرى، بالمختصر شهدت المرحلة تلك نهضة عمرانية وإنشائية كبيرة قادها القطاع العام، مما أستدعى استنفار القوى العاملة جميعها في هذا القطاع الإنشائي، من مهندسين وعمال، لم يستثن عمال القطاع الخاص من هذه العملية حيث ارتفع الطلب على الأيدي العاملة المتخصصة والمدربة، كما ارتفع الطلب على المهندسين المتخرجين بأعداد كبيرة من كليات الهندسة، وبموازاة الإنشاءات الحكومية الكبرى، نشط القطاع الخاص بدوره من خلال الجمعيات السكنية الخاصة وتعهدات البناء على مساحة الوطن، واستطاعت القوى العاملة السورية مواكبة هذا التوسع المتسارع في قطاع الإنشاءات، واستطاعت اليد العاملة المدربة والخبيرة بتغطية الطلب الكبير على عمال البناء، فقامت المكاتب الهندسية الخاصة بالتعاقد مع النسبة الأكبر من عمال البناء في القطاع الخاص باختصاصاتهم كافه لسنوات عديدة، لضمان استلامها وتسليمها لتلك المشاريع التي تعهدتها، ورغم الاستغلال الفاضح الذي قامت به تلك المكاتب لعمال البناء من خلال الفرق الكبير بين أرباحها وأجور عمالها المتواضعة، بقي الطلب المرتفع على عمال البناء هو الضامن لعمل مستمر لهم ولأجر يلبي الحد الأدنى من معيشتهم.


عمال البناء إلى لبنان

ولم تدم تلك المرحلة طويلا حيث شهدت تراجعاً تدريجياً على مر السنين، فتراجع الطلب على عمال البناء مما اضطر قسم كبير منهم للسفر إلى لبنان، الذي كان قد دخل  مرحلة إعادة الإعمار فيما بقي القسم الآخر منهم مرتبطين بحركة البناء المتراجعة في السوق، الذي عاد ليتنشط لاحقا حين بدأت ظاهرة البناء في الأرياف على الأراضي الزراعية، وحركة بناء العشوائيات والمخالفات، مما أمن فرص عمل نسبية من جديد للعمال، ولكن بأجور أقل وظروف أصعب، واكتملت أزمتهم مع التبني الحكومي للسياسات الاقتصادية الليبرالية التي دفعت بهم من جديد نحو البطالة الموسمية أو العمل بأجور بخسة.


الليبرالية الاقتصادية تضرب بقسوة

حين تبنت الحكومة السياسات الاقتصادية الليبرالية مع مطلع الألفية الحالية، تراجع دور الدولة لحساب رأس المال الإنشائي الذي، فرض إرادته على السوق، وعلى العمال، فمن جهة تراجع الدعم عن القطاع الزراعي، فهجر الشباب أراضيهم أو عملهم المأجور الزراعي ليدخلوا سوق العمل العمراني بالتزامن مع عودة أغلب العمال العاملين في لبنان، الذين عملوا لسنوات عديدة فيها بسبب تراجع الحركة العمرانية في لبنان، ولأسباب سياسية أخرى، ومن جهة ثانية نشطت حركة العمران على الأراضي الزراعية في أرياف المدن والقرى، لانعدام الجدوى الاقتصادية بسبب تخلي الحكومة عن مسؤوليتها تجاه المزارعين، وبسبب ارتفاع الطلب على هذه المساكن لانخفاض تكلفتها وأسعارها، مقارنة بالمدن والأبنية المنظمة، تلك العوامل كلها أضعفت أجور هؤلاء العمال وفرضت عليهم بطالة موسمية وضعتهم على حدود خط الفقر، فخمس طوابق مخالفة يبنيها المتعهد المتآمر مع البلدية لا تحتاج سوى شهر واحد لتنجز مع اكسائها، ليعمل العامل شهراً وينتظر حظه ببناء آخر وصفقة مع بلدية فاسدة أخرى.

أين عمال البناء؟

ما إن بدأت الأزمة حتى نشطت حركة البناء المخالف بشكل كبير في أغلب المناطق، مستفيدة من حالة تفلت الفساد من معوقاته، فاقتنص الفرصة وشيدت الأبنية كيفما اتفق، ولم يستمر الأمر طويلا حتى بدأت الاعمال العسكرية وتراجعت حركة العمران لحدود التوقف، مما أزاح عمال البناء عن مهنتهم، وحين طال الأمر ووجدوا أنفسهم بلا عمل وبلا أفق واضح لجؤوا لأعمال أخرى، فبعضهم اعتمد على أعمال الترميم البسيطة، أو الإصلاحات، وقسم أعاد تجربة السفر إلى لبنان، فيما توجه آخرون وهم الأغلبية للعمل في العتالة كونها مهنة لا تتطلب سوى البنية المناسبة، وهذا ما يمتلكه عمال البناء، فلا يكاد يخلو سوق جملة أو مخزن كبير من عمال بناء سابقين، فيما بقي من لم توفقه الظروف في غياهب البطالة ينتظر انتهاء الأزمة وبداية الإعمار عله ينتهي من فترة طويلة من العجز والفقر والحرمان.
إن عمال البناء شأنهم شأن سائر الطبقة العاملة التي تضررت بفعل أمرين اساسين، وهما: السياسات الاقتصادية الليبرالية، والأزمة الوطنية، ولن تتحقق مصالحها إلا بانتهاء الأزمة وانجاز التغيير الذي يفضي لسياسات مبنية على مصالحها الوطنية والطبقية، ويبقى لعمال البناء أهميتهم الكبرى، فهم المعتمد عليهم وعلى خبرتهم التراكمية لمرحلة إعادة الإعمار التي وإن طالت فهي لا بد قادمة.