في إفلاس الترسانة الفلسفية المثالية: إمّا العقلانية أو التدمير الشامل

في إفلاس الترسانة الفلسفية المثالية: إمّا العقلانية أو التدمير الشامل

من ملامح المرحلة الحالية، كما أشرنا سابقاً، انكشافُ الجوهر وتجانسُه مع الشكل، وهناك أيضاً اندماج مستويات البنية الاجتماعية. وهذا التحوّل يقوم تحتياً أوّلاً على اشتداد التناقضات الموضوعية ووصولها إلى «حدّها» التاريخي، وثانياً على التحام النشاط المادي للبشر في مستوييه الذهني/العقلي والجسدي/العملي. وهذا يؤسّس لتقارب البنية التحتية والفوقية، ويسمح بالخلاصة التالية وهي وصول الواقع إلى ظهوره بلغة «منطقه الفلسفي» ولغة «منطقه السياسي» بالضرورة. وهذا رعب العقل في دفعه العالم باتجاه اللاعقلانية والفلسفة الصلفة.

الفلسفي كفضاء تجريد مبكّر

إن الفلسفة هي ميدان نشاط عالي التجريد، مما يسمح لها بـ«إجراء أقصى التعميمات النظرية اتساعاً، التي هي مهمتها الأساسية» (أويزرمان، 1988، ص86)، وهي «مركب نظري من أعمّ النظرات إلى الطبيعة والمجتمع والإنسان والإدراك، مركّبٌ يضمن تقديراً لكل ما يشكّل مضمون هذه النظرات العامة، تقديراً ليس معرفياً (إبستمولوجياً) فحسب، بل وأخلاقيٌّ واجتماعيٌّ أيضاً» (أويزرمان، 1988، ص140-141) وبالتالي فهي تعميم لـ«المعتقدات الإنسانية الأساسية، فيما يتعلق بالطبيعة والحياة الشخصية والاجتماعية، المعتقدات التي تلعب دوراً إدماجياً، توجيهياً في الوعي والسلوك والإبداع وفي نشاط الناس العملي في مجموعه... وتستلزم الوظيفة التوجيهية للنظرة إلى العالم أفكاراً محددة معيّنة ... فيما يتعلق بـ)موقعِ( الإنسان في التركيبة الطبيعية والاجتماعية للأشياء» (أويزرمان، 1988، ص138) وتعزز بالتالي مبادئ أخلاقية معيّنة. وهي بذلك كانت قد تقدّمت بالنظرات الممكنة-الاحتمالية إلى العالم وتنظيمه، وبالأخص علاقة الفرد بالمجتمع، علاقة الذات بالموضوع. والبحث في تاريخ الفلسفة يسمح منهجياً بتتبُّع تطور النظرات إلى العالم التي جرى أو سيجري تحقيقها على المستوى التاريخي-الاجتماعي، أي الفعلي الملموس.

اقتراب الذات من الموضوع: اشتداد التناقض الموضوعي

إذا اعتبرنا أنّ المناورة نحو النموذج الفرداني الليبرالي بعد الحرب العالمية الثانية دفعت اقتراب الذات من الموضوع، نتيجة توسّع مجال العمل الذهني لدى قوى الإنتاج المادّي، وتحديداً القوى البشرية، فإنّها سمحت بالتالي بتوسّع المجال الفكري الذي كان حكراً على العقل المهيمن الذي ينتمي إلى الانقسام الاجتماعي الأساسي طوال تاريخ المجتمع الطبقي، الذي هو نفسه قاعدة الانقسام الفلسفي مادية-مثالية، أيْ احتكار العقل من قبل الطبقات المهيمنة على الضد من الطبقات المنتجة جسدياً. وهذا التوسع فرض ولادة الذات من باب الموقع الذي ينتمي للضرورة التاريخية بتجاوز الواقع الطبقي ككل، أي من موقع الطبقة العاملة. وهذا فرض المناورة التاريخية الفردانية الليبرالية التي لها مكافئها الفلسفي. هذا المكافئ الفلسفي هو أن العقل «الانقسامي» استخدم ما في الترسانة الفلسفية المثالية. التحوّلُ التاريخي في دخول الذات من موقع الموضوع، أي الوجود المادي، دفع النموذج الاجتماعي للاقتراب فلسفياً من المذهب الفلسفي الأرقى تطوراً -حتى ذلك الوقت- أيْ الهيغلية، كفلسفة عقلانية موضوعية مثالية. ولكن هذا الاقتراب لم يكن له أن يكتمل، لأنّ المذهب الهيغلي في توحيد الذات والموضوع له منطلق مركزي هو أن «الشيء في وجوده يكون ضرورياً لذاته وللآخر»؛ أي أنّ الفرد يجب أن يكون ضرورياً لنفسه وللمجتمع. وهذا ما لا يمكن له أن يحصل في المجتمع الذي يقوم على حكم الأقلية ومنطق تراكم الربح على حساب الأكثرية. والفرد لا يمكن له أن يكون «ضرورياً» إلا لمصلحة لأقلية، حيث إنّ فائض عمله يذهب باتجاه ربح تلك الأقلية. ولهذا كان نموذجُ الأقلية المحقَّق، أي الليبرالية الفردانية، لغاية استيعاب الذات التي اقتحمت التاريخ من موقع الموضوع، من موقع التقارب مع الموضوع، هو نموذجٌ ذاتيٌّ مثاليّ، غير موضوعيّ. فكانت الذات الفردانية الليبرالية محدودةً معزولةً عن الموضوع، مكتفيةً بذاتها، إلى حدّ إلغاء الموضوع-المجتمع. هذا النموذج الوحيد المتاح في الترسانة الفلسفية والذي كان مقبولاً ضمن حدود المجتمع المنقسم على ذاته، مجتمع انقسام ذات-موضوع، فرد-مجتمع.

مرحلة الأزمة في النموذج: العقلانية والعدمية

تلك المناورة كانت ممكنة لفترة محدَّدة، ليس فقط بسبب القدرة على تأمين شروطها الاقتصادية الأمنية الاجتماعية، أيْ تجربة دولة الرَّفاه بشكلٍ خاص، ولكن أيضاً بسبب التوازن الطبقي-السياسي عالمياً مع قوى الاشتراكية. ومنذ أنْ انتهت تلك الشروط الضرورية لنجاح نموذج الاستيعاب ذاك، دخل مذهب الذاتية المثالية في أزمة. وكونه لا يمكن للعقل المنقسم ولا قواه الاقتصادية-الاجتماعية الحاملة له، أنْ تقبل بالتقدم خطوةً إلى الأمام في تجاوز الانقسام فإنّ المتاح المتبقي لها في الترسانة الفلسفية المثالية هو النموذج اللاعقلاني-العدمي. ولهذا فإنّ النموذج «الاجتماعي» الذي تُقدِّمه تلك النخبةُ المهيمنة (أو التي تحاول تثبيت هيمنتها) هو نسخةٌ من الوجود لاعقلانيةٌ، وعدميةٌ، تتمثّلُ بشكلٍ خاصّ بأقصى أشكال التطرُّف الفلسفي المثالي، أيْ المثالية الصِّرفة من جهة، التي تنفي الموضوع، وتنفي المجتمع، والمادية الصِّرفة (كنسخةٍ مموَّهة مِن المثالية) التي تنفي العقل-الذات من جهة أخرى. هذا ما نراه اليوم، في تدمير العقل وتدمير المجتمع والوجود المادّي على السواء على مستوى البنية الفوقية والتحتية. البنية الفوقية لمرحلة الأزمة لها هويةٌ «لاعقلانية»، وبالتالي فوضى و«لا انتظامية»، في الحقوق والسياسة والأكاديميا والعلوم والفن والأخلاق والقيم... وفوضى تحتية اقتصادية إنتاجية تدميرية للطبيعة وقوى الإنتاج المادي.
هذا الاشتدادُ في التناقض المادي، وتقاربُ البنية الفوقية والتحتية، هو تعبيرٌ عن جوهر السؤال الفلسفي الأساسي، في جانبه «الأنطولوجي» (الوجودي وأيُّهما أسبقُ الواقع أم الذات)، و«إبستمولوجياً» (إمكانية معرفة الواقع مِن قِبَلِ الذات). في الجانب الأوّل، فإنّ إجابةَ النخبة الشمهيمنة تقترح تدميرَ الطَّرفَين، وفي الجانب الثاني فإن إجابتها تقترح تدميرَ قاعدة إمكانية المعرفة، أي الممارسة، فالنشاط وحده، ومِن موقع المادية التاريخية الجدليّة (الماركسيّة)، هو الذي يسمح بمعرفة الواقع، المتمثِّل في موضوعة ماركس «عَمِلَ الفلاسفةُ على تفسير العالم، بينما المطلوب تغييره» مِن خلال الممارسة والنشاط. وهذا النشاط، وتحديداً شلُّ قدرة الأغلبية على النشاط، هو ما تحاول النخبة المهيمنة القيامَ به، وهو الذي بدأ مبكراً في مقولات «لا تسييس الجماهير»، كتعبير عن تقارب النشاط الذهني والعملي.

على الجهة المقابلة

في مقابل الدفع باتجاه العدمية واللاعقلانية وتدمير العقل، فإنّ الحاجة إلى العقل، أو عقلنة الواقع، تشتدُّ، وتحديداً في المستوى الفلسفي-السياسي. وهذه العقلنة تتطلّب وحدةَ العقل والنشاط. وهذا هو التحدِّي الذي يقعُ على عاتق المشروع الحضاري النقيض. إنّ توحيدَ العقل والنشاط، من أجل الحفاظ على العقل وعلى الواقع، هو الإجابة السياسية التي لها في الترسانة الفلسفية المادية مذهبُها الناضج في وحدة الذات-الموضوع، وحدة الفرد والمجتمع، في الماركسية، التي هي الانتقالُ المادّي من وحدةِ وعقلانيةِ هيغل المثاليّة نحوَ وحدة الماركسيّة المادّية. هذه هي الخلفية المادية والتاريخية لتضخُّمِ الجانب الفلسفيّ في مستوياتِ الواقع، حيث إنّ الواقع يتطلَّب الفلسفةَ ليس في حدود عقل النخبة عبر تاريخ البشرية، بل في كلِّ لحظةٍ من وجود القوى الاجتماعية في تساؤلها عن وجودها، وعن بقائها، وعن تحقُّقِ حاجاتها المادية والروحية-المعنوية، بالضرورة مِن خلال وجودها من أجل الآخرين حتى توجد من أجل ذاتها، في صيغة الفرد التاريخي الاجتماعي السياسي ضد فرد الاستهلاك السلبي.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1168
آخر تعديل على الإثنين, 08 نيسان/أبريل 2024 12:33