رحيل مدحت السباعي.. سينما مثيرة للجدل
نديم جرجوره نديم جرجوره

رحيل مدحت السباعي.. سينما مثيرة للجدل

هل صحيح أن صفة "صانع الأفلام الهابطة الرائجة" تليق به حقّاً؟ يُطرح سؤالٌ كهذا غداة شيوع نبأ رحيل المخرج السينمائي والتلفزيوني المصري مدحت السباعي، أمس الأول.

نبأ رحيله دعوة إلى استعادة مسار صنعه الراحل على الشاشتين الكبيرة والصغيرة، مخرجاً أعمالاً متفاوتة الأهمية، طرح فيها مواضيع تصلح لإنجاز فني راق، أو لتنفيذ مشاريع متعلّقة بها وإن بطريقة عادية جداً. لا أدّعي معرفة بأعماله التلفزيونية. لم أشاهد أفلامه السينمائية كلّها. "خلطبيطة" (1994) لا يزال عالقاً في البال، لجماليته المائلة إلى شكل سوريالي مثير للضحك، على الرغم من قسوة حكايته. نبأ رحيله أعاد إلى الذهن "بئر الأوهام" (1986) و"امرأة آيلة للسقوط" (1992) مثلاً. المواضيع المختارة أساسية في الحياة اليومية العامة. أناس كثيرون معرّضون لمواجهة مآزق كهذه: اتّهام أحدهم بجرم لم يرتكبه، مع ما يثيره هذا الاتهام من مواقف وحالات وارتباكات (خلطبيطة). فقدان الذاكرة للهروب من مأزق، أو جرّاء صدمة نفسية قوية، وما يترتب عليها من مآزق تتعرّى شيئاً فشيئاً لجلاء حقائق معينة (بئر الأوهام). العالم السفلي للمدن الكبيرة، بما فيه من إجحاف بالحقّ الإنساني للبشر في العيش بأفضل شكل ممكن (امرأة آيلة للسقوط). هذه تنويعات سينمائية على مواضيع مشغولة كثيراً في العملين السينمائي والتلفزيوني. تنويعات مفتوحة على أسئلة الحياة والاجتماع والعلاقات والانفعالات ومعنى القدر والصدفة والغرائبية.

عنوان أحد أفلامه القديمة مثيرٌ للمُشاهدة: "ثلاثة على مائدة الدم" (1994). الثريّ النافذ في بيئته الاجتماعية وامتداداتها السياسية والقضائية والاقتصادية، ينجو من العقاب لشدّة بطشه النابع من سلطة نفوذه. فيلم آخر يؤكّد فكرة اختيار مدحت السباعي مواضيع جادّة: "الستات" (1992). حكاية معروفة ومُكرّرة، عن علاقة الصحافة بالفن والفنانين (هل أقول بالسياسة والسياسيين؟ بالشرائح الاجتماعية والبشرية كلّها؟). السلطة والنفوذ حاضران هنا أيضاً، لكن عبر فنانة لا تتردّد عن إثارة الماضي لإحراج صحافي لا يريد نشر أخبار عنها. السلطة والنفوذ أيضاً وأيضاً في "خلطبيطة" (قيل إنه مستوحى من "المحاكمة" لفرانز كافكا): هناك "بريء" متّهم بذنب لم يقترفه. الفعل الغرائبيّ أقوى من سؤال السلطة. محمود عبد العزيز في أحد أدواره الجميلة والمُقنعة بغرائبية النص والمعالجة والتنفيذ السينمائي. لكن مدحت السباعي، أقلّه بحسب الفيلم نفسه، لم يشأ الغوص في أعماق الحبكة الأصلية وأسئلتها القدرية والوجودية والإنسانية، فبدا كأنه يُريد توظيف الكوميديا داخل نصّ محكم الكتابة والصُنعة البصرية. بدا كأنه يُفضّل تطويع المسألة الفكرية عند كافكا لحساب التبسيط السينمائي الذاهب إلى الفعل الكوميدي العادي البحت.

بعد رحيله بساعات، كتب البعض أن هناك إمكانية كبيرة لوصف مدحت السباعي بـ"إد وود المصري". المخرج الهوليوودي وود معروف بكونه أحد أهم مخرجي الأفلام الهابطة والرائجة جماهيرياً. لن أدخل في نقاش حول هذه المسألة. لن أقيم مقارنة بين المخرجين. لكل واحد منهما خصوصيته الفنية والاجتماعية والثقافية والحياتية. مدحت السباعي مخرج امتلك وصفة سينمائية متداولة في العالم العربي، خصوصاً في مصر وسوريا ولبنان، منذ خمسينيات القرن الفائت وستينياته وسبعينياته تحديداً. التبسيط والتسطيح والمعالجة السريعة وارتكاب أخطاء تقنية ودرامية وفنية، أمورٌ لا تزال تحصل لغاية اليوم في أفلام عربية عديدة.

سواء أكان "إد وود المصري" أم لا، حقّق أفلاماً هابطة ورائجة أم لا، فإن رحيل مدحت السباعي يجب أن يدفع إلى قراءة نقدية أعمق لأحد ملامح السينما المصرية والعربية، المتمثّلة بهذا النمط من الاشتغال السينمائي.

 

المصدر: السفير

آخر تعديل على الإثنين, 26 أيار 2014 21:57