عن الذاكرة والمكان.. علينا ألّا ننسى كي لا نفقد أرواحنا

عن الذاكرة والمكان.. علينا ألّا ننسى كي لا نفقد أرواحنا

يرسم غسان كنفاني في أعماله الأدبية ومقالاته صورة واضحة وجلية للمكان، ليصبح أحد أبطاله المهمين، «اللا مرئي» ولكن «لا غنى عنه» في النص، مَثله في ذلك مَثل الذاكرة، بطل آخر، يتفنن كنفاني في رسمه وتوظيفه للقضية التي يناضل من أجلها. يفعل ذلك بذكاء سياسي وطني محنك ومهارة أديب وفنان قل نظيره.

ولعل من أهم أسباب نجاح مسلسل التغريبة الفلسطينية للمخرج الراحل حاتم علي أنه استطاع تصوير وإظهار الحالة العلائقية بين الإنسان والذاكرة والمكان، وتمكن من إبهار المشاهدين وإدخالهم إلى عمق الصورة وجعل المتخيَّل واقعياً من خلال العمل على تفاصيل المكان العام والخاص منه: «فلسطين، المخيمات، الصحراء، البيوت.. إلخ»، وإظهار البطولة الجماعية للإنسان الفرد حيث لعبت أغلب الشخصيات دور «بطولة» ما في موقعها، وربط ذلك بالذاكرة التي تجمع البشر وتقدم لهم أفقاً وأملاً بالعودة.
تجعل الذاكرة من الزمن سلسلة تمتد بالفرد من الماضي، منذ ولادته، مروراً بحاضره الآني المعاش، إلى المستقبل. يحمي الإنسان نفسه من النسيان بالتذكر، بينما يدفع «التذكر المشترك» الآخرين إلى حماية أنفسهم من النسيان، تبدو الذاكرة رابطاً معيشاً وحاضراً على الدوام، لا يمكنك التملص من شراكها الزمنية، تشكل كل لحظة تعيشها فيها خيطاً ينسج الروح ويربط الحياة والوعي بالوجود. يتم استدعاء التفاصيل (أمكنة صوراً وأصواتاً وروائح.. إلخ).
يمنح استدعاء المكان الصور والأحاسيس والمشاعر وجوداً، فالمكان ليس صامتاً أو جامداً بل «فاعلاً» له دلالة خاصة على تبلور كيانات ثقافية واجتماعية، ويتضمن دلالات رمزية ووظائف تؤثر في تشكل التجارب واستمرارية الوجود الإنساني.
تحمل الذكريات القصص ويجري إعادة عيش التجارب الإنسانية، يخرج المكان هنا من الطبيعة إلى الفكر. وبهذا يساهم نوعاً ما في الفاعلية الاجتماعية، من خلال العيش المشترك، تتوطد علاقة الإنسان بالطبيعة (المكان) والمجتمع. وعندما يرتحل الإنسان من مكان إلى آخر، تحمل ذاكرته صوراً من الماضي إلى الحاضر فالبيت الذي نولد فيه ونعيش طفولتنا محفورٌ في داخلنا. يصبح رمزاً يساهم في تعميق الهوية والشعور بالانتماء.

الهوية ليست معطى ثابتاً

يرتبط المكان بفكرة الاحتواء فهو الذي «يحتوينا» كبشر، ولهذا تتسم العلاقة بين الإنسان والمكان بكونها علاقة وجودية عاطفية من ناحية وتطورية متبادلة من ناحية أخرى، فالمكان يؤمّن للإنسان القدرة على تلبية حاجات ضرورية للاستمرار في العيش منها الانتماء والاستقرار والشعور بالأمن والتفاعل مع الآخرين ..إلخ، وهذه تساعده في اكتساب هويته الوجودية، وحتى على صعيد الحس والعاطفة، تتسلل المشاعر بعمق في وجدان الكائن الإنساني لتترك آثارها العميقة في مستويات تشكل الذات، وتصبح جزءاً حميمياً منه، وذلك لأن المكان هو المجال الحي الذي يحتضن كل عمليات التواصل والتفاعل بين الإنسان والعالم الذي يحيط به، ينمو خلالها الإنسان ويتطور في مختلف الجوانب، لأنه يملك خصائص ومميزات مرئية واقعية تدل على الهوية.
تشكل الذاكرة المكانية جزءاً من هوية الفرد والجماعة. حيث يلتقي الوعي الاجتماعي بالممارسة اليومية. وتعتمد الهوية في بنائها الرمزي على الإرث المادي، الفنون الشعبية والموسيقا والغناء والرقص والعادات والتقاليد.. إلخ، وصولاً إلى طراز البناء المعماري الموروث في التجمعات البشرية. يشكل التراث المادي قاعدة يستند إليها تطور الهوية المتغير للفرد والجماعة، وتلعب الأماكن بمحمولاتها الجمالية والرمزية والتاريخية دوراً هاماً في بناء الهوية وثوابتها وتحولاتها، فهي تمثل جزءاً من حركة البشر وتفاعلهم معها وحولها، ترتكز هوية المكان على ما يسرده التاريخ المكتوب والشفهي عن الأمكنة كالأسواق والشخصيات والمزارات والتماثيل والطراز المعماري، وعن وظائف المكان الاجتماعية والاقتصادية والفنية أياً كانت، وبعض شخصياته ورموزه الفكرية والسياسية والفنية، ومرتادي على سبيل المثال دور المقابر ومواقعها في الوعي الجمعي، أو المقاهي التاريخية التي تجمع السياسيين، والمثقفين، والشعراء ..إلخ.
إن أي تغييرات قسرية تحدث في المكان، كإبعاده عن أرضه وتهجيره إلى أماكن بعيدة، من شأنها أن تحدث شرخاً في شخصيته وقد تولد في أعماقه عقدة نقص، وحنيناً مستمراً إلى المكان الذي تربى وعاش فيه.

الحلم «أن يكون لك بيت»

في مقدمات الأزمة التي يعتقد البعض أنها بدأت فقط منذ سنوات، كان الحلم عند أغلب السوريين هو امتلاك بيت! ولم يكن الأمر ليعتبر مسألة تعجيزية لو أن خيرات البلاد تعود إلى ناسها، ولكنها كانت تذهب لقلة من الفاسدين، وهذا ما جعل الحلم صعب المنال. وهو ليس سوى غيض من فيض في تداعيات مسألة المكان والذاكرة الجمعية للغالبية العظمى من السوريين.
عمل الناس ما بوسعهم حينها لتحقيق الحلم. وصل الأمر في كثير من الأحيان إلى بذل سنوات عمرهم الطويلة من أجله. تزايدت مشكلات السكن قبيل انفجار الأزمة وتضاعفت. وجاءت الحرب لتجهز على ما تبقى. نزح كثيرون من مناطقهم وغادروها إلى أماكن أخرى داخل البلاد وخارجها، وما لحق ذلك من تبعات وضع، في مجمله، بحمل أعبائه المتنوعة وثقله على أكتاف الأسر الفقيرة. وزاد من معاناة شرائح مختلفة في المجتمع.
ليس سهلاً على المرء أن تتجاوز ذاكرته صورة المكان الذي ولد وعاش فيه خاصة عندما يتعرض ذلك المكان للتهديم أو الدمار بسبب الحرب أو بسبب المستفيدين منها. تتحول علاقة الناس بالمكان مع ماضيهم الشخصي الذي عاشوه فيه. وما يتكون من ذكرى بعد ذلك بما يحتويه من مشاهد وتفاصيل للمكان المدمّر، تأبى الذاكرة أن تحتفظ به في كثير من الأحيان وتتخطاه محتفظة فقط بصورة المكان قبل خرابه.
من جهة أخرى، تعاني شريحة واسعة من أبناء الأزمة في سورية ممن ولدوا أثنائها أو كانوا أطفالاً صغاراً عندما بدأت، إضافة إلى ما يعانونه، من موضوع الذاكرة المكانية والتي أصبحت مشكلة بالنسبة لهم، فلا يملك كثير منهم ذاكرة أسرته، وجعلهم التنقل الدائم من مكان إلى آخر، قلقين بشكل دائم تربطهم علاقة سيئة بالمكان، بيوت مستأجرة وظروف سيئة للإيجار، يدعوهم الفقر إلى السكن في أحياء ومناطق «عشوائيات» لم يختاروا أن يعيشوا فيها وفق أرادتهم، تزدحم فيها البيوت وتتكاثف مشكلاتها، يعيشون على الهامش، الهامش المسيّس بالعمق، وصولاً إلى الهامش الإنساني، تتشابه الحكايا في بلادنا، كما الأماكن التي يعيش فيها ناسها. تكتمل الصورة السريالية، في تجاور هذه الأماكن إلى مناطق أخرى قريبة ولكنها لا تشبه في شيء ما سبق. يعيش فيها أناس أيضاً مختلفون من أثرياء الأزمة.

زمن مفتوح على الكثير

تفترض الحياة دائماً التغيير. وزماننا مفتوح على الكثير، سيعيش الناس فيها حكايا أخرى مختلفة. وهو ما يتطلب توسيع وفتح الأفق لفهم الواقع المعاش والبحث عن البدائل. ما زالت ثقافة المكان غامضة وملغومة، ولذلك هناك ضرورة لجعلها مفتوحة على منظور مغاير عن المنظور السياسي والثقافي المهيمن. فإعادة الإعمار لا تعني فقط جدراناً وإسفلتاً..إلخ، بل تتطلب بناء متكاملاً ومتعمداً للمشهد بحيث تتحقق هوية إنسانية حقيقية للناس والمكان.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1144