مجدداً عن غياب البدهيّ في تحرير الإنسان في المشاريع الحضارية المتاحة على الساحة

مجدداً عن غياب البدهيّ في تحرير الإنسان في المشاريع الحضارية المتاحة على الساحة

عندما نستحضر المشاريع النقيضة المطروحة اليوم في مواجهة وصول الحضارة الرأسمالية إلى نهايتها يلفتنا الغياب العملي لموضوع المواجهة، ألا وهو الإنسان. طبعاً إن الدفاع عن مصير البشرية في وجه الدمار النووي والجوع والنهب الإمبريالي وتدمير الطبيعة يصب كله في مصير الحفاظ على الإنسان كنوع (جموع) بيولوجي، ولكن ماذا عن الإنسان كفرد وكعاقل؟ في هذه المادة سنعيد الإشارة إلى بعض أفكار تحرير الإنسان وكيف أن غيابها كـ»بدهيات» دليل على الخضوع للاغتراب وهيمنة التشييء وتأثيرها على المشاريع النقيضة، أو على الأقل، عدم جهوزية هذه المشاريع للصراع في ضرورته التاريخية.

ليست الماركسية وحدها في «بدهيات» تحرير الإنسان

أمام أزمة الحضارة الرأسمالية التي وصلت إلى نهايتها المتمثلة في عدم قدرتها على الإجابة عن الأسئلة الوجودية الروحية والمادية- بل هي تدفع هذين الجانبين إلى مستويات التدمير- يعود إنسان اليوم إلى استحضار الإنتاج التاريخي للإنسانية والمشاريع البديلة، فهو ليس مدعواً إلى إعادة اختراع العجلة من الصفر. وإن كانت الماركسية في صياغاتها الفلسفية والنظرية مثلت النقيض الذي يضم تراث الإنسانية السابق، معاداً توليفه من الموقع الثوري-التغييري العملي، فلماذا تحضر الماركسية مبتورة اليوم؟ وبحضورها المبتور ذلك تغيّب. وفي بدهيات جوهر الصراع من أجل التطور، فإن الموقف في الماركسية يعني تجاوز الاقتصاد السلعي والنمط الاستهلاكي الذي شيّأ الإنسان من خلال إخضاعه لعمليات نشاط عملي معادية له ولحاجات كمية تخدم فاعلية الكم والتراكم المالي الخارجي عنه. وفي عملية العمل المغترب الذي يخدم النمط التوسعي لعالم الأشياء الاستهلاكية يجري تغريب الإنسان، وتحويله بدوره إلى شيء. وجوهر الثورة الاجتماعية هي في تغيير هذا البناء الاجتماعي عبر تغيير أهدافه النهائية والآليات التي تخدمها. أي تغيير طابع الاستهلاك وليس فقط تغيير طابع الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. فالرفاه في عالم الأشياء والفائض فيها هو بالنسبة لماركس مكافئ للشحّ، طالما أن قاعدة العلاقة مع الأشياء هي نفسها، أي أن تكون الأشياء هي التي تعرّف الإنسان وتعرّف كينونته، وهذه هي الصنمية. على العكس، يجب تغيير قاعدة العلاقة مع العالم الموضوعي، بأن تكون غاية المجتمع الجديد السائر في طريق الحرية هي أن يعبر الإنسان في وجوده عن وجود الإنسانية كلها، ويدخل في علاقة وحدة معها، عبر نشاطه العملي. في هذه العلاقة الوحدوية يجري تحقق وجود الإنسان، فتتحول عملية العمل (ونشاط الإنسان العام الذي يربطه بالعام) إلى عملية ضرورية تكتسب معناها من الترابط الجوهري بين العمل وبين الحاجات الموضوعية للإنسان في توكيد ذاته على عكس عملية العمل الفارغة من المعني في زمن الإنتاج السلعي التي فيها ينتفي الإنسان ويتجزأ ولا يجري توكيد وجوده وشمولية هذا الوجود.

هذه «البدهيات» هي حجر الزاوية في مشروع الماركسية الفلسفي والنظري والعملي. فلم تكن الماركسية مشروعاً اقتصادياً صرفاً، ولا إنتاجيا تقنياً، بل مشروعاً أشمل، يعمل في الإنسان وتحريره كظاهرة تاريخية. وإن غياب هذه «البدهيات» يعني فيما يعنيه أن عملية الاغتراب نفسها «ناجحة وتعمل». فاستعراض التحليلات النقيضة الغالبة يسمح بهكذا استنتاج. والماركسية ليست وحدها في هذا الطرح، بل هي هضمت الإنتاج السابق لها ووضعته موضع التنفيذ. فالمقولات حول الفاعلية الإنسانية ضد التغريب حضرت في مواقف العديدين طوال قرون قبل الماركسية، من الشاعر الألماني يوهان غوته إلى يوهان فريديريك شيلر. ومن خط التحليل لدى هؤلاء استنبط ماركس الكثير في بناء خط تحليله.

كيف يغيب الإنسان في عصر طفرته؟

في العودة إلى كتابات ثوريين ومفكرين نقديين منذ ما قبل ماركس، إلى ما بعده، وتحديداً أفكار ناقدي الرأسمالية فيما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، نجدها اليوم تتجلى بشكل مباشر ومحقق. فالكلام عن تفريغ الإنسان من فاعليته وحيونته وتشييئه من خلال الطفرة الكبرى في الحاجات المختلقة التي أخضعت الإنسان في عصر طفرة الاستهلاك والليبرالية الفردية، نراه اليوم ظاهرة ليست فقط في تحليلات نظرية في بل مواقف البشر اليومية، وبالتالي تطورت الظاهرة إلى مستوى من العلنية مفهومة «للعين العادية». وهكذا، كانت الليبرالية مرحلة طفرة فردانية، وفي آن طفرة في اغترابه، وهكذا توقعن وتحقق وتوضّح وتجسّد موضع مشاريع تحرير الإنسان، أي الإنسان نفسه. فالإنسان لمّا كان موضوع المرحلة مؤخراً وجوهر سرديتها، وحكماً جوهر هيمنتها، يصبح بالضرورة في مركز المشروع النقيض. فكل المرحلة الليبرالية الفردانية بنيت على أساس إخضاع القوى الاجتماعية عندما دخلت مسرح التاريخ. وهكذا، وكونه لا يمكن العودة إلى عصر ما قبل الليبرالية، فإن المطروح اليوم أمام قوى العالم القديم هو نكوص إلى ما قبل كل المنجز العقلاني للبشرية، والدفع إلى النهاية المنطقية للوجود اللا-إنساني، اللا-عقلاني. وما مظاهر المجموعات البشرية التي تعرف نفسها وتمارس اليوم كحيوانات (فيديوهات كثيرة انتشرت مؤخراً لأفراد يعرفون أنفسهم ويعيشون ككلاب، والبعض الآخر كزواحف ويجرون العمليات الجراحية و»التجميلية» لذلك الغرض من إضافة ذيول وتحويلات في الجلد والأسنان والعيون...) ليست إلا التعبير المباشر عن تحقق جوهر النمط التغريبي في الواقع العملي وبشكل علني وصريح وليس فقط توصيفاً نظرياً ضمنياً لكتابات منظرين ومفكرين. لقد وصل النمط الرأسمالي إلى تشابه جوهره مع شكله وبالتالي وصل إلى حده. كل ذلك وكيف يغيب الإنسان الفرد عن المشروع الحضاري النقيض في حين تستخدمه قوى العالم القديم كسلاح تدمير شامل للتاريخ ككل، حيث يحصل «استغلال عالمي لجوهر الانسانية المشترك» على حد تعبير ماركس على قاعدة تخليق واستغلال الحاجات بالوهم والصنمية؟

وبالتحديد كيف تغيب إعادة صياغة علاقة الفرد بالعالم من خلال نمط حياة منتج؟ ليس بالمعنى الاقتصادي المحدود للكلمة، بل بالمعنى التاريخي التطوري. الإنتاج هنا هو عملية نشاط إنساني هدفها تحقيق حاجات الإنسان التي تطورت (بالأحرى تبلورت) خلال مرحلة الطفرة الفردية الليبرالية، حاجات أن يكون الإنسان معترفاً به من خلال ضرورته للآخرين ومصيرهم بالضد من «الشهرة والشكل الخارجي والسلم الاجتماعي القائم على المال والتملك». إذاً بكلمات ماركس، يجب أن يكون موضوعي توكيداً لمقدراتي، وهكذا، تحويل موضوع نمط الحياة من خلال النمط النقيض هو وحده يخلق قاعدة العقلانية والإنسان الجديد الخارج من الاغتراب، والقادر على الفاعلية في مواجهة العدمية والبربرية المطروحة.

على هذه القاعدة من بعث روح الإنسان في المجتمع ضد تجفيفه من قبل قوى وظروف ونمط حياة العالم القديم، يجب بناء المشروع الحضاري النقيض، ليس نكوصاً رومنسياً نحو الماضي، بل تجاوزاً لتناقضات المرحلة، أي إعادة الفرد للتاريخ بعد أن حاولت المرحلة الأخيرة من الرأسمالية أن تعطل فاعليته في خوفها من دخوله مسرح التاريخ خلال بدايات القرن الماضي. أي التعريف الفعلي لكيف يتحقق الفرد بالضد من النمط الفرداني الليبرالي. و»بدلاً من ثروة وفقر الاقتصاد السياسي، لدينا الإنسان الثري والحاجة الإنسانية الغنية. فالإنسان الثري هو في الوقت نفسه إنسان يحتاج إلى خليط من تجليات إنسانية للحياة، وهو الذي يأتي بعملية تحقيق ذاته إلى حيز الوجود كضرورة داخلية، وكحاجة». يجب ألا يكون المطروح استكمالاً للنمط الاستهلاكي لعالم الأشياء، حيث «كل شخص يأمل في أن يخلق حاجة جديدة لدى الشخص الآخر، من أجل أن يجبره على تضحيات جديدة تضعه في خانة اتكال جديدة، وتغويه إلى نوع جديد من المتعة وبالتالي إلى خراب اقتصادي. يحاول الجميع أن يفرض على الآخر قوة مغتربة كي يجد فيها إشباع حاجاته الخاصة. وفي زحمة الإنتاج الهائل يزداد عالم الهويات المغتربة التي يخضع لها الإنسان. يصير الإنسان أكثر فقراً، إذ تزداد حاجته للمال من أجل امتلاك الوجود العدائي...تصبح المغالاة والتطرف معيارها الصحيح الوحيد... كما أن ]الإنتاج والحاجيات[ يصبحان بشكل دائم عملية حسابية للخضوع للشهيات غير الإنسانية، لشهية الحرمان، والشهيات غير السوية والوهمية»(ماركس).

إن كل اللوحة الأيديولوجية والروحية لمرحلة الأزمة الحضارية الرأسمالية الاستهلاكية الفردانية تدور حول هذه القضية المركزية. والمشروع النقيض يجب أن ينطلق منها والطاقات الكامنة التي تغذي المشروع العدمي والتهديمي (وكل الطفرة والتسارع في الانحدار الثقافي مبني عليها) يمكن نقل قوتها للبناء والتطوير، وهذا يتطلّب فتح النقاش والتجميع.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1143
آخر تعديل على الخميس, 19 تشرين1/أكتوير 2023 16:28