في جدل مواجهة الصّنمية وتحرير مضمون المشروع الحضاري النقيض

في جدل مواجهة الصّنمية وتحرير مضمون المشروع الحضاري النقيض

في هذه المادة سنعيد الإشارة إلى بعض الأفكار حول تحوّل عملية الممارسة الهيمنية في لحظة الرشوة الكبرى، كضرورة في تعرية صنمية اليوم، وصياغة مضمون المشروع الحضاري النقيض. فتحرير مضمون هذا المشروع يمر بالضرورة في كسر تلك الصنمية، ولو أن هذه الصنمية اليوم تشهد أزمة وتعطّل في وظيفتها كآسر للحياة الروحية والإنسان، كشيء فوق الإنسان، مخضعة إياه، وفي خضوعه لها يجمِّد حركته وإبداعه، ويموت كإنسان مصدر الفعالية.

الهيمنة بعد الرشوة الكبرى والصنمية

تمت الإشارة سابقاً إلى أن الهيمنة الأيديولوجية هي عملية، هي ممارسة، وليس فقط مقولات لغوية، بل وحدة بين النظرة إلى العالم والممارسة الحياتية المتلائمة معها. وفي هذه الممارسة يجري التعمية على الواقع. والواقع هذا متحول، وعليه يجب أن تتحول الممارسة الأيديولوجية الهيمنية للتعمية. ومع تعقد الواقع وعملياته، تتعقد الممارسة تلك. وفي كونها مهيمنة فهي تشمل الوعي في بنية اجتماعية ما، بمختلف تمظهراته ولو تناقضت شكلياً. ولهذا، فإن لحظة الرشوة الكبرى كان انتقالا نوعياً في ممارسة الهيمنة وديناميتها. لقد كان مطلوباً استيعاب القوى الاجتماعية التي دخلت مسرح التاريخ. فكان عليها تحويل المسرح إلى صنم بحد ذاته مع كل العناصر المتناقضة التي كانت على هذا المسرح. ونقصد بذلك مختلف الأفكار والمشاريع المتصارعة. حصل هذا ليس بفعل «قرار» وحيد الجانب، بل بفعل تحول في شروط الحياة نفسها خلال الرشوة الكبرى. فتوسع هوامش الليبرالية وقتها سمح بتوسّع حاجات تحقيق الذات. وهكذا، نشأ على المسرح مضمون وجوهر جديد، ولكن شكل المسرح حافظ على عناصره الشكلية نفسها، ولم يلتقط هذا المضمون عبر تحويله إلى مشروع ممارسي/عملي قادر على تحقيق هذا المضمون، أي حاجات تحقيق الذات وسعيها للاعتراف. لا نقصد بذلك أن هذا التحليل، ولو بشكله العام، كان غائباً عن أذهان العديد من مفكري التيار الثوري في النصف الثاني من القرن الماضي، ومنهم واوضحهم كان مؤخراً أوليغ شينين، أمين عام الحزب الشيوعي السوفييتي ما بعد انهيار الاتحاد. ومنهم من لم يتحول موقفهم إلى حالة مهيمنة (بشكل أساس بفعل تلاقي هذا التحول مع لحظة التراجع، أو بالأحرى، كان هو أحد أسبابها المباشرة)، فلم نسمع بموقفهم النقضي لعملية الاغتراب المستجدة والمتوسعة.
هكذا، مع جمود العناصر الفاعلة القديمة (ونقصد تحديداً المشاريع السياسية الكبرى ونظرتها التي تقدمها إلى العالم) على المسرح التاريخي دون التقاط الجوهر الجديد، تحوّلت نفسها بالنسبة للغالبية وبشكل نسبي إلى أصنام، يعبرون من خلالها عن الجوهر الجديد من الحاجات، ولكن صارت هي نفسها إطار تحقيق هذه الحاجات. هذه هي حالة «الثوري» الذي تتحول هويته نفسها إلى إله يعبده لتحقيق ذاته وليجد نفسه، أليست هذه دينامية تحوّل «الثورية» إلى دين وطائفة، معادية لباقي الأديان والمجموعات الاجتماعية، وهذا واضح في سلوكهم ضمن مشروع التفتيت نفسه، وكيفية تموضعهم السياسي بجانب الليبرالية السياسية لتلاقي مقولات الليبرالية مع جوهر الصنم «الثوري» نفسه. بينما هذا الجوهر يجب أن يكشف عن نفسه في مشروع يعبر علناّ عن هذا الجوهر، وعن كيفية تحقيق حاجات تحقق الذات المغتربة.
ذكرنا سابقاً بشكل سريع أن الفاعلين في الأطر الاجتماعية والسياسية الحالية، وهم غالباً قسم وازن من النخبة، قد لا ينتبهون إلى عملية الصنمية تلك، لأنهم بفعل نشاطهم وفاعليتهم يلمسون فعاليتهم النسبية مهما كانت مساحتها، وبالتالي، يحققون ذلك الجوهر الجديد (تحقيق الذات الإنسانية وحاجتها للاعتراف) الذي على المشروع السياسي العملي التقاطه وتحويله إلى برنامج ممارسي يمكن تعريفه من خلال نمط حياة واقعي. وهذا لا ينفي أن كل نشاط هذه النخبة له طابع الصنمية، بل هي نسبية. والقسم الذي له طابع الصنمية هو نفسه ما يجب أن يتم تضمينه في المشروع الحضاري النقيض كونه هو الإجابة عن الأسئلة الإنسانية التي تسمح المرحلة بالإجابة عنها، لسبب أساسي هو: أن الصنمية الليبرالية الفردانية الاستهلاكية تعطلت بنسب كبيرة، وتبلورت عناصر السؤال المطلوب الإجابة عنه، سؤال معنى الحياة نفسه. ويسمح به كذلك أن قوى العالم القديم لم تعد تملك في ترسانتها الممارسية للتعمية أي شيء يجيب عن هذه الأسئلة، فآخر سلاح «يشبه الإنسان» في ترساناتها، كان الطفرة الليبرالية الفردانية. ولهذا فهي اليوم بسبب من فقدانها لسلاح تعموي جديد فهي تنحدر بالبشرية إلى ما دون المعنى، إلى البربرية والوجود الرث، وتشجع الانتحار الفردي والجماعي. هذا الواقع تنبأ به العديد من مفكري الرأسمالية المبكرة، ولكنه اليوم صار واقعا محققاً وملمحاً رئيسياً للنمط الرأسمالي الحالي.

المشروع الحضاري النقيض

يمكن القول: إن كل عناصر المشاريع «البديلة» المطروحة اليوم، أي التي لها طابع العالمية، تحمل فيها طابع الصنمية، لسبب بسيط ومباشر، فهي لا تطرح قضية الإجابة عن سؤال الاغتراب الذي طرحه على جدول الأعمال الانتقال الليبرالي في منتصف القرن الماضي. وهي لا تطرح قضية الإجابة عن معنى الحياة الذي جلبه تعطّل الليبرالية في العقود الماضية. ما نجده في هذه المشاريع هي عناصر تنتمي إلى مسرح التاريخ دون تطوير فيها. ولهذا السبب بالذات، نحن نلمس تضخماً في المستوى الاقتصادي من هذه المشاريع، على حساب المستوى الروحي. وعلى الرغم من وجود كلام عن الحفاظ على الثقافة الإنسانية، في وجه التدمير الحاصل، ولكن الموقف من الثقافة كتراث فقط يُصنّمها هي الأخرى. الثقافة الإنسانية هي بدورها عملية ممارسة لفعالية الإنسان وعقلانيته. وهذا يعني تضمين المشروع الحضاري النقيض نمط الحياة النقيض عن النمط الاستهلاكي الفرداني، عابد الأشياء الجامدة في وجودها، نقيض النمط المهلك لكل ما هو فاعل وإنساني.
ومجدداً، سؤالنا عن النمط الحضاري النقيض مباشر وبسيط، ما هو النمط الحياتي نقيض الاستهلاك، القادر على تحقيق سعي الأفراد للاعتراف؟ وما هو التنظيم الاقتصادي الاجتماعي السياسي القادر على تنفيذه بما يتجاوز التجارب «التعاونية- التطوعية» في التجارب الثورية السابقة، ويتجاوز أيضاً أصنام «الطهرانية- الثورية» الهوياتية؟

مجدداً، ليس السؤال ترفاً

إن ضرورة المشروع الحضاري العالمي النقيض ليست ترفاً نظرياً، بل حاجة عملية وجودية للدفاع عن الوجود البشري، وحتى قبل تنفيذ المشروع نفسه. بل يجب أن يكون إعلانه منصة قادرة أولاً على تحشيد وتجميع القوى الحية، ومن ثم عبر هؤلاء يمكن تحشيد القوى الاجتماعية. ففي لحظة وصول البنى الحالية الصاعدة إلى سقفها الاقتصادي- السياسي لأنها لا تخرج عن النمط المطروح الاستهلاكي، حينها سينطرح السؤال عن كيفية تحقيق الخرق في هذا السقف. المصدر الوحيد هو القوى البشرية وممارستها الجديدة. القوى البشرية التي تصنع التاريخ، والتي يجري اليوم تدميرها منهجياً وبشكل استباقي. هذا الاستعجال لقوى العالم القديم في الدفع باتجاه البربرية والوجود الرث، هو من أجل تجفيف قوة الحياة الإنسانية. من هنا ضرورة بداية التجميع السريع، على قاعدة تضمين المشروع الحضاري سؤال تجاوز الاغتراب، وسؤال معنى الحياة، فهذه الأسئلة بالتحديد هي مصدر طاقة الدفع باتجاه البربرية وتعطّل العقل والعقلانية. عالمية وتزامن الصراع تفترض هذا التجميع وهذا المشروع، فطاقة القوى المحلية «الوطنية» (على أهميتها) لكل بلد على حدة لا تكفي وحدها، وحتى استكمال القوى المحلية يحتاج هكذا انتقال في المشروع النقيض. ومن ثم يمكن ضم قوى كبرى حية (وعزل أخرى) في الغرب على هذا الأساس. والدعوة مفتوحة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1142
آخر تعديل على الجمعة, 20 تشرين1/أكتوير 2023 18:16