الفن والعلم.. تأمل ضروري (2/2)
حسين خضّور حسين خضّور

الفن والعلم.. تأمل ضروري (2/2)

من أجل أن نفرق بين فن صحيح - فن غير صحيح. «لا بد قبل أي شيء أن نتوقف عن النظر إليه كوسيلة للمتعة، وأن ننظر إليه كشرط من شروط الحياة البشرية» (1). (تولستوي). وهذا لا يعني إلغاء خاصِّيَّة المتعة في ظاهرة الفن، إنما يعني فقط إعادتها إلى مكانها الطبيعي، عندما يتعلق الأمر بتناول حقيقة الفن. وقد تقف أمامنا عقبات، أثناء محاولات الكشف عن المقصد الفني، وعليه نقترح التمعن بهذه العناصر الثلاثة، المحتوى ومادة البناء والشكل. من دون تفضيل واحدة على الأخرى، «فلا يمكن فهم الشكل في استقلال عن المحتوى وعن طبيعة مادة البناء وعن الاستعمالات التي تتحكم فيها، إذ يرتبط الشكل من جهة بالمحتوى، ومن جهة أخرى يرتبط بخصوصيات مادة البناء وكيفية الاشتغال التقني التي تستدعيها». (2). (باختين).

ربما تساعدنا العودة إلى الزمان القديم، حتى ولو بنظرة خاطفة، على تلمس بدايات تشكل ظاهرة الفن، في سياقها الزمني المركب، هنا، وهناك، حيث تكونت ظاهرة الفن، منذ انفصال الإنسان البدائي عن المملكة الحيوانية دخولاً في سيرورة طويلة وما تزال متواصلة للتحرر من مملكة الضرورة. «فإن توليد النار بالاحتكاك هيَّأ للإنسان لأوّل مرة السيطرة على قوّة معيَّنة من قوى الطبيعة، وبذلك فَصَلَ الإنسانَ نهائياً عن مملكة الحيوان». (3). (إنجلس). وعليه يمكن أن نفترض أن تشكل ظاهرة الفن بدأ بالترافق مع تحوُّل الحركة الميكانيكية إلى حرارة. فمن خلال هذه النقلة المادية الثورية، تجلت الضرورة عند الإنسان البدائي، لإعادة تشكيل الطبيعة، لأجل إدراكها. ويمكننا القول بأن الفن التشكيلي، كان الأداة المعرفية الأولى التي لبّت تلك الحاجة الملحة. ولاحقاً مع تعقد مسار حركة البشرية، تمكّن الإنسان البدائي من السيطرة على التراب والماء، فترافق معهما الرقص والموسيقى، جنباً إلى جنب مع تطور الفن التشكيلي. بناءً على ذلك حملت عتبة تاريخ البشرية في جوفها سيطرة الإنسان البدائي على قوى الطبيعة المادية المترابطة، المتشابكة، والمتداخلة، «نار - تراب - ماء»، وأيضاً على ما ينتج عنهم من تفرعات من قوى الطبيعة المادية الصغيرة المترابطة، والمتشعبة. فتعززت قدرات الإنسان البدائي البدنية، ونمت شجرته المعرفية، وتوهجت طاقاته الروحية عبر الفن، «التشكيلي - الرقص - الموسيقى»، وكل ما نتج عنهم من أنواع فنية مترابطة ومتداخلة فيما بينها. أثناء تكثف نقطة الانطلاق تلك، تعمق جوهر الفن، بالتزامن مع ظهور فائض بسيط من إنتاج الإنسان البدائي فوق حاجته الأولية، فدخلت الجماعات البشرية في عمليات مقايضة لممتلكاتهم الخاصة مع جماعات أخرى غريبة عنها، وزاد إلحاح الحاجة، لدفع اللغة البدائية المشتركة بين البشر إلى تكوين نظم أعقد مما كانت عليه، فتعقدت بنى الفنون الثلاثة، وشكلت بترابطها العفوي وحدة عمل فني، تحمل في رحمها بذور ولادة فن جديد، أطلق عليه لاحقاً لقب المسرح.

عند هذا المفصل تحرك سياق تاريخ البشرية وفق مسار طويل ومتشعب نحو تشكيل مجتمع بشري ينقسم إلى طبقتين متناقضتين متصارعتين، «الأسياد - العبيد». وتتوزع بينهما فئات وشرائح تتسع حيناً، وتتقلص حيناً آخر. وهناك تطور الفن بقفزة هائلة من حيث محتواه التاريخي العالَمي، والشيء ذاته حصل مع العلم وأفرعه، والمعارف الشعبية، والخبرات التقنية، فظهرت فنون جديدة، مثل فن الأدب الشفوي، والكتابي منه. أما النقطة الفارقة، كانت تكمن في ولادة فن المسرح المشبع بإمكانات واسعة تفتح المجال الفعلي أمام الفن التشكيلي وأفرعه، وفن الرقص وحالاته، وفن الموسيقى وأنوعها، وفن الأدب وأجناسه، للترابط ضمن عمل فني واحد. وفي خضم هذه النقلات الهائلة لم تعد تكفي سيرورة تطور الفن من خلال تفاعلاتها مع تبدلات الطبيعة، ومع الاكتشافات المرافقة لها، والتحولات في بنية علاقات البشر ضمن الأراضي المشاعية. فإن صعود المجتمع البشري إلى مسرح تاريخ الصراعات الطبقية، قد حمل معه التناقض بين العمل البدني والذهني، وعزز الانقسام بينهما، فكانت الأعمال الذهنية تقتصر على طبقة الأسياد والفئات والشرائح التابعة لها، أما الأعمال البدنية فقد انحصرت في طبقة العبيد والفئات والشرائح التي تدور في فلكها. وعليه كانت المقدرة على تطوير المسرح من جوانبه النظرية، بيد قلة قلية، وليس ذلك فحسب، إنما أيضاً كافة العلوم والمعارف الأولية. وما بين تطوير الجانب التطبيقي الملموس لفن المسرح، والجانب النظري المجرد، مروراً بالجانب المادي التقني، ظهرت الحاجة لدفع خاصِّيَّة «الصراع الطبقي» في ظاهرة الفن من كونها إحدى الخصائص الثانوية لجوهر الظاهرة إلى خاصِّيَّة أساسية محملة بمضامين تعبر عن كافة الظواهر الاجتماعية التي نشأت نتيجة هذا الصراع. ومنذ ذلك الزمن البعيد، وحتى اليوم، وإلى الغد القريب، تمضي تلك الحاجة ذاتها إلى وضعية أكثر إلحاحاً، ما يعني أن جوهر ظاهرة الفن يتعمق أكثر.

صحيح أن الفن انتقل من البسيط إلى المركب، والشيء ذاته حصل مع العلم، لكن ذلك لم يقف أمام تعاظم الترابط بين المسرح «أبو الفنون» والفلسفة «أم العلوم». وإننا نفترض أن العامل الحاسم في هذه المسألة يكمن بوجود صلة وصل مركبة، تجمع العناصر العلمية، والخصائص الفنية، وأيضاً الثقافة الشعبية بشقيها الحسي، والنظري. إننا نتحدث هنا عن «الدراما»، تلك الجملة العصبية الناقلة لمشاعر وأفكار البشرية، وفق عملية إبداعية، ونقدية تفتح الأفق نحو حرية التفكير «لقد أوضح هاوبتمان أن الدراما بالنسبة له ليست نتيجة جاهزة للفكر بقدر ما هي عملية التفكير ذاتها. وهذه هي الفكرة التي سترد ثانية عند بريخت في تصوره للمسرح كجدل (ديالكتيك)» (4). (ستيان). وإنّ افتراضنا على أن الدراما هي صلة وصل بين الفن والفلسفة، لا ينحصر على المسرح فحسب، إنما يشمل كافة الفنون الأخرى. ويمكن ملاحظة أن (الطبيعية - الواقعية - الرمزية - السريالية - العبثية – الوجودية - التعبيرية – الملحمية...)، كل واحدة منها هي شكل يعبر عن محتوى فلسفي مختلف، وفي ذات الوقت هي محتوى لأشكال فنية مختلفة.

تطرقنا في الجزء الأول عن وضع الفن السائد المتفسخ، وحاولنا هنا الإشارة إلى أن الفن والعلم وثيقا الصلة ببعضهما بعضاً، وأن الدراما تشكل الجانب الخاص من هذه العلاقة. وعليه نقترح أن نعيد النظر بالعلم السائد، «فإن نشاط العلم الباطل سيجر خلفه من كل بد نشاطاً أدبياً باطلاً أيضاً». (5). (تولستوي).

بناءً على ما أشرنا إليه يمكننا أن نفترض أن الفن الصحيح هو فن درامي بالمقام الأول، أي إنه فن يتكثف في عمقه الصراع الطبقي، أما أشكاله الفنية فهي تعبير داخلي عن مضامين ذاك الصراع. «فإن الفنان يجد نفسه فقط، عندما يتوافق عمله مع الإيقاع الداخلي العميق لشعبه، وعندما تتلاقى اتجاهاته مع اتجاه حركة التاريخ التي تنبض في مجتمعه. دون ذلك سيحس بالعزلة، وسينشب التمزّق في أعماق وجوده». (6). (سعد الله ونّوس).

إن الخروج من أزمة الفن يتوقف في نهاية المطاف على تطوير وحدة الدراما بين النظرية والتطبيق، وليس من فراغ أن الإمبريالية، وهي في ذروة النشوة ضمن الفترة الوجيزة التي بقيت فيها لوحدها على مسرح التاريخ، قد وضعت نظرية ما بعد الدراما من خلال سطوة أدواتها الثقافية، ما يعني أنهم زعموا ضمنياً نهاية الصراع الطبقي. لكن مع مرور الوقت سيتبين أكثر أنهم أسرفوا بالحلم، وعلى الأرجح ستكون رحلتهم في المستقبل القريب، مثل رحلة دون كيشوت، سيقررون ذات صباح أن يعودوا وراء حلمهم، ولن يجدوه إلا سراباً.

(1) - (5) «مَا هوَ الفَن؟» تأليف: ليو تولستوي / ترجمة: محمد عبدو النجاري/ دار الحصاد للنشر والتوزيع، دمشق 1991.
(2) «جَمَاليّةُ الإبدَاع اللفظِيّ» تأليف: ميخائيل باختين / ترجمة: شكير نصر الدين/ دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة 2016.
(3) «ضدَّ دُهورِنغ» تأليف: فريديك إنجلس / ترجمة: دار التقدم 1984 / إعداد: دار الطليعة الجديدة، دمشق 2023.
(4) «الدراما الحديثة بين النظرية والتطبيق» تأليف: ج. ل. ستيان / ترجمة: محمد جمّول / منشورات وزارة الثقافة السورية 1995.
(6) «الأعمال الكاملة - المجلد الثالث» تأليف: سعد الله ونوس / دار الآداب للنشر والتوزيع، بيروت 2004.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1143
آخر تعديل على الخميس, 19 تشرين1/أكتوير 2023 16:31