تراث الرشدية اللاتينية

لعل من المشروع لنا أن ننتقل هذه المرة من قراءة تراثنا إلى النظر في امتداداته وتفرعاته في تراث «الآخر» الغربي، ميداننا إذاً في هذه المرة ليس العالم الإسلامي بل أوروبا في نهايات القرون الوسطى، حيث ظهر تيار فلسفي تنويري كبير عرف باسم «الرشدية اللاتينية» مثَّل نقطة التقاء حضاري كبير بين عدة ثقافات وحضارات ولعب الدور الأبرز في الانتصارات الفكرية العظمى التي حققها متنورو أوروبا في عصر النهضة، هذا التيار الفلسفي قام على أساس استلهام العمل المعرفي الكبير الذي قام به فيلسوف قرطبة الشهير أبو الوليد بن رشد في إحياء وتطوير ونشر التراث الأرسطي في البيئة العربية الإسلامية.

مع ابن رشد وصلت العقلانية الإسلامية إلى ذروتها العليا، حيث ظهرت فلسفة أرسطو على يديه بكامل ألقها ونقائها، عاملاً على دفعها إلى نهاياتها المنطقية والعقلية وتأصيلها في العقل العربي، وإيجاد التبرير الأيديولوجي لها من خلال إظهار نقاط التقائها مع مقاصد وغايات الشريعة الإسلامية، مع الحفاظ على الاستقلال المعرفي لكل من ميداني الحكمة والشريعة، ولكن للأسف فإن ما يمكن تسميته بـ«الرشدية العربية» لم يكن له مستقبل يضاهي مستقبل الرشدية اللاتينية، فسرعان ما انطفأت مشاعل العقلانية والتنوير الإسلاميين لتنطفئ معها الرشدية العربية، وليسود الفكر السلفي الظلامي في معظم أرجاء العالم الإسلامي، في حين انتقلت عصارة التنوير الإسلامي إلى الغرب الأوروبي.

وفي ذلك الزمن الذي كانت فيه أعمال ابن رشد يطويها النسيان وتتعرض لكل أشكال الملاحقة في العالم الإسلامي، بدأ الغرب بالتعرف على ابن رشد إما عن طريق قراءة الترجمات العبرية التى وضعها يهود الأندلس لأعماله، وخاصةً ترجمات الفيلسوف اليهودي الأندلسي موسى بن ميمون، وإما عن طريق الترجمات اللاتينية التي وضعها ميشيل سكوت بين عامي 1217-1220م في مدينة طليطلة. وقد لاقت تلك الأعمال رواجاً كبيراً بين مثقفي أوروبا الذين وجدوا فيها من عناصر التنوير ما يمكِّن من إنقاذ أوروبا من عصور الظلمات التي كانت غارقة فيها حتى ذلك العهد.

ولم يكن استقبال السلطات الدينية في أوروبا للرشدية بأفضل من الموقف الذي اتخذه الفكر السلفي العربي من ابن رشد، فقد سعت الكنيسة إلى استغلال الأجواء الأوروبية المسممة بأصداء الحروب الصليبية لتنعت ابن رشد بالكافر المهرطق، والوثني الذي جاء فكره ليخرب استقرار العقائد المسيحية «وهي النعوت نفسها التي أطلقها السلفيون المسلمون على أرسطو عندما بدأ فكره ينتشر في العالم الإسلامي»، وهكذا دفع أول رشدي لاتيني حقيقي  سيجر دي براربانت حياته ثمنا لدفاعه عن أفكار ابن رشد، وصدر قرار كنسي بمنع تداول الأفكار الرشدية في عام 1277م، ولكن كل ذلك لم يحل دون انتشار الرشدية في معظم الجامعات الأوروبية، فأصبحت هي الفكر السائد في جامعتي «بادو» و«بولونيا» في إيطاليا، في حين استعملها أساتذة جامعة الكوليج دو فرانس في فرنسا في صراعهم الفكري مع أساتذة جامعة السوربون المرتبطة بالكنيسة في ذلك الزمن، وتدريجا بدا الفكر الرشدي يحقق انتصاراته في كل الميادين، ليبقى سائدا في أوروبا ومؤثرا على فلاسفتها حتى القرن السابع عشر، عندما بدأ الفكر الأوروبي يهيئ نفسه للانتقال من مرحلة عصر النهضة إلى مرحلة عصر الأنوار.    

وقد قام الرشديون اللاتينيون بتطوير فكرة ابن رشد حول اتصال الفلسفة والشريعة بالمقاصد، واستقلالهما المعرفي والمنهجي عن بعضهما لوضع إحدى الصيغ الأولى للعلمانية الأوروبية، هكذا كان التأطير النظري للانفصال في المنهج، وليس التعارض والتناحر في الغايات، بين الفلسفة والدين بداية للمطالبة بفصل الدولة والسياسة عن الكنيسة في أوروبا.

استطاعت البيئة الأوربية إذاً، بعد أن استكملت الكثير من عناصر نهضتها اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، استيعاب وتمثل الفكر الرشدي الذي اعطى الكثير من العناصر الثقافية والمعرفية للنهضة الاوروبية، في حين كان العالم العربي والإسلامي قد بدأ يغرق في سباته الحضاري بعد أن حل الخراب في كثير من بنياته الاقتصادية والاجتماعية لأسباب يطول شرحها، وهكذا لم نستطع حتى الآن أن نسترجع فكر فيلسوفنا الأهم أو أن نبدأ بوضع مشروع رشديتنا العربية.   

   ■ محمد سامي الكيال

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.