مطبات: مطر.. لهذي الشام المبللة

أتعلمين أي حزن يبعث المطر..

(بدر شاكر السياب)..

لماذا تعرش هذه العبارة على قلبي كلما عاد المطر إلى مدينتي الغارقة في نعاسها الجميل، الليلة يهب الهواء على دمشق من جهة الجنوب، وتهتز الصحون الفضائية فوق بيوتاتها التي لم تحظ بعد بالصحن الواحد، ويطير بعضها، ويختبئ أولئك الذين نسوا طقس الشتاء، وآووا إلى لغة (المكيف) الدافئة، يستمتعون بهواء ساخن مستعار.

عبارة تصلح لكل اشتياق، لكل امرأة خائفة من افتضاضها ليلة ريح، ومن افتضاح روحها في زمن الذكر المستذئب، لكل العاشقين الذين أدمنوا المدينة التي لا تعرف النوم، والحالمة بذكور على شاكلة العراقي الراحل إلى بيروت، شاعر على هيئة تابوت مزنر بالأغنيات التي تقدس الحزن قصيدة خلود.

أعود دون إذن إلى مدينتي، ثمة من سيقول إنني أستعير لغة محبطة، أو كلمات من قاموس لا يليق بكاتب زاوية محلية، أو بـ(مطبات) تثرثر في البلديات وأحوالها، الأرصفة المتهالكة، اختلاسات أمناء الصناديق، الصرف الصحي، البنى التحتية المتهالكة، مخالفات البناء، التسويات وعمولاتها، رؤساء البلديات اللصوص الصغار، التجار، الأسعار الكاوية، الاحتكارات، السوق المفتوحة كفم قرش في فيلم رعب... لكنني اليوم أستعيد لغتي ومدينتي لأكتب شيئاً من ذات أهلكتها لغة الصحافة الشوارعية، اللغة التي يجب أن تتوسط بين فوق وتحت، والممتدة على كل الشرائح في هذه المدينة التي أحب.

ولكنني لن أخرج من مدينتي، ربما سأعبر شارعاً بأغنية، وأسير قرب مخالفة أدندن لحناً مخاتلاً، وأكتشف سر الأمكنة السفلية وأصيح بلكنتي القديمة: طوبى لكم، سأستعير لغة الشاعر النائم في رأسي، والذي أعياه السفر في أوحال الأزقة، وقرر فجأة أو(بطلب) أن يعود بقميصه الفارغ من جسده، وجوعه المبدع، وثرثراته القديمة عن الحب، وزوايا الشوارع، ومداخل البنايات الحديثة، ومصعد البناء الذي يحرك فيه غريزة القبل.

أذهلتني الذاكرة التي كنت أعتقدأنها (تكنست) بالتحقيقات، واللقاءات، والزوايا المغرقة في محليتها، وكنت أعتقد أن الغوص في الأرض يضيّع الفضاء، وأن الكتابة عن الزواريب تقتل الوردة، وأن أنفاس المدراء والمتنفذين الصغار تغلق مفاتيح الروح، وأن اللهاث حول المدينة لمطاردة خبر صحفي يجعل اليد ترتجف عند كتابة كلام موزون، وأن الكتابة عن ركن الدين والشيخ خالد وحارة الطنابر تحيل قاسيون لمجرد بيوت متهالكة على بعضها، وقاسيون العنيد مجرد حمّال (أسية) وفقراء، وأن التسول يثقب القلب... لكنها دون ريب مدينتي التي أدمنتها، واقعية وشاعرية في حزنها، قاسية كمشرط وبسيطة كنبع ماء لا يكترث بالطرقات.

أيتها المدينة (المدمشقة) بسرعة تاجر بناء خسيس، ومحتكر لسكرنا وشاينا وسمنة (مجدرة أمهاتنا)، والفلاح الذي قسا على التراب بالماء الأسود ليجعل تبولة عطلتنا بطعم (الخراء)، وموظف يمرر معاملاتنا بقروش الرشوة، وأتعاب اللقاء بوجوهنا المتعبة من صعود درج إلى الطابق، أما المصعد المعطر فهو للمدير وكبار الزوار.

أيتها المدينة لم تكنسي الليالي الطويلة في كتابة مطولة عن المنتفعين من صندوق المعونة الإجتماعية، أبناء المسح الإجتماعي، الفقراء المتواجدين في لوحات مراكز البريد، أو في حوار عنيد عن رفع الدعم عن محروقاتنا في وقت رأت فيه الحكومة أن فطامنا قد حان، وأننا كبرنا، وصار بإمكاننا أن نستغني عن يدها الممدودة لنا، وأننا نستطيع أن نعيل بيوتاً وأرواحاً بعشرة آلاف ليرة، بينما دراساتها ودارسوها يرون أن المواطن لكي يأكل ويشرب يجب ألا يقل دخله عن ثلاثين ألفاً، وأن الغلاء الذي يسببه التجار المحتكرون ستحاربه بالتدخل الإيجابي، وفي الوقت نفسه ترى أن وظيفة الدولة هي مراقبة السوق، وأن التسعير بيد التاجر وحده.. مدينتي التي أحب هل أستطيع العودة إلى عباءتي القديمة؟