أزمة وعي

أزمة وعي

بعد مرور شهر على الأزمة في سورية: «لك هدووووول شو بفهمهن بقانون الطوارئ»، بعد سنة: «يا ويلاه .... لك معقول كل هاد يطلع من الشعب.. لك شو هالوعي هاد, شو هالثقافة اللي حاملينه». اليوم: «حكيك حلو يا أخي, بس بدك شعب يفهم».. حكم ٌ ومواعظ أخلاقية وتربوية، انتشرت منذ بداية الأزمة وتناقلتها بشكل رئيسي فضائيات الإعلام الرسمي وشبه الرسمي «قناة الدنيا» نموذجاً.

قد تختلف هذه العبارات بدرجات العتب «الأبوي» تتراوح ما بين النصيحة والتأنيب لتصل أحياناً لحد التوبيخ أو الشتم وقد تبدو للوهلة الأولى مجرّد «فشة خلق» كما يحب للبعض أن يبرئ, وقد تتباين أيضاً لهجة «الناصح» المحكيّة، ومستوى الاستغراب الذي يبديه هذا المذيع أو ذاك الضيف، ولكن كل ما سبق لا يستطيع إخفاء الهدف والقصد من تكرار مثل تلك العبارات, فهي رغم اختلاف شكلها تذهب باتجاه اختزال الأزمة السورية على أنها أزمة وعي أو ثقافة أو امتحان «أخلاقي» رسب به معظم أفراد المجتمع..!!.
في الوعي والتخلف
تعاني بلدان الأطراف أو ما يعرف ببلدان العالم الثالث أو العالم النامي من انخفاض مستوى ثقافتها ووعيها وتطور بنيتها الفوقية بشكل عام، ولسنا هنا بمعرض الحديث عن الأرقام الإحصائية الدقيقة التي تعكس مستوى التطور أو التخلف في هذه البنية، وإنما يدور الجدل هنا حول طريقة البعض في محاكاة أو فهم أسباب تدني هذا المستوى أو ارتفاعه, ومحاولة البعض القول إن «التخلف» هو سبب ما نحن به اليوم، ويحاول جاهداً أن يجرد مستوى التخلف عن أسبابه الحقيقية، وبذلك يصل إلى ما يريد من نتائج «مغلوطة» في أغلبها ولكنها مقولبة وفق أهدافه.
من غير المفهوم مثلاً للمشاهد أن يتحدث أحد ضيوف القناة الرسمية بكل «شفافية» عن الأرياف السورية المهمشة والفقيرة لسنوات وعقود، ثم يظهر بعد دقائق وقد بدت عليه ملامح الاستغراب ليتحدث عن منسوب التخلف عند بعض أبنائه باختلاف شكل هذا التخلف الحالي..؟
فعندما تكون المعادلة «فقر + تهميش = تخلف»، تصبح المعادلة لدى ضيفنا «تخلف + تخلف = والنتيجة حتماً «تخلف..!!». معادلة من الدرجة «الأسهل» ولكنها حتماً «الأبعد» عن الرياضيات والمنطق العلمي الذي قد يوصلنا إلى فهم الأسباب الحقيقة لما تشهده بلادنا من أزمات متكررة..
في نظريات التخلف
من الجدير ذكره أن هذا الأسلوب في التفسير ليس أسلوباً سورياً مستحدثاً، وليس عفوياً أيضاً, فلهذا التفسير مدارسه العريقة ومنظروه وكثير منهم علماء ومفكرون قد يختلفون في الزمان والمكان, في الاختصاص وفي الأيديولوجيا, وربما حتى في نظرية الخلق ونشأة الكون..!!. ولكن ما يجمعهم، وليس على سبيل المصادفة، أنهم جميعاً من منظري البرجوازية التاريخيين, (كونت, الفكر الدارويني «الاجتماعي»، مالتوس, مونتسيكو, نوركسه, روستو, هيرشمان, روزنشتاين, شومبتير، ماكس فيبر، مكليلاند.. وكثيرون آخرون) يتفقون في الإجماع على أن سبب التخلف هو حتماً (ليس اقتصادياً) وإنما هو سيكولوجي أو سوسيولوجي يتعلق بطبيعة الأفراد وروح الإبداع لديهم ومستوى نشاطهم و...و...الخ. وحتى أن «مونتسيكو» ذهب إلى أبعد من ذلك وأرجع أسباب التخلف لـ«المناخ»: معتبراً أسباب التخلف في نصف الكرة الأرضية الجنوبي ارتفاعاً في درجات الحرارة عن نظيرها في النصف الشمالي، أما «شومبتير» فيراه نفسياً!! لأن التخلف عنده يتأثر بـ«التوجه النفسي ومستوى تشكل القناعات..!»، وقام «المحدّثون الانكليز» بتطبيق تجاربهم على الأفارقة السود فاكتشفوا أنهم «أقوام تتوجس من الإبداع ولا تستطيع تغيير نمط حياتها وبالتالي فهم محكومون بالتخلف!!».
الحلقات المفرغة للفقر
«تخلف سوء تغذية، تخلف فساد إداري، تخلف..!!» ومئات النظريات والأفكار الأخرى التي تبتعد في أغلب الأحيان عن ملامسة الأسباب الحقيقة الكامنة وراء تخلف هذا المجتمع أو تطور ذاك. ربما كان من الأجدر على المحدثين الإنكليز مثلاً إحصاء عدد مناجم الذهب واللؤلؤ والياقوت المستغلة من شركات أوروبا في إفريقيا بدلاً من الذهاب لدراسة العوامل النفسية لعامل لا يستطيع حتى تجديد قوة عمله بسبب قلة ما يحصل عليه من أجر ثمناً لساعات عمله الطويلة المضنية في أحد تلك المناجم, ربما يتحتم على «ضيفنا من يتحدث لساعات» كذلك أن يبتعد عن حالة الاستغراب التي تعتريه, ليعترف أن تهميش وإفقار تلك المناطق ليست مجرد مقولة نرددها كصك براءة وإبداء حسن نية, وإنما هي السبب الرئيسي لما تشهده تلك الأرياف من ارتفاع في تعداد مسلحيها الذين اكتسبوا مستوى تخلفهم مع مرور السنين العجاف, لأنهم حتماً ليسوا متخلفين «جينياً..!!»