«كوينتن دوروارد» لوالتر سكوت: نوع من الحنين إلى تاريخ منسيّ

«كوينتن دوروارد» لوالتر سكوت: نوع من الحنين إلى تاريخ منسيّ

لم يكن الباحث الفرنسي جان كابو بعيداً من الصواب حين أشار، في تقديم إحدى الطبعات الفرنسية لرواية «آيفنهو» الشهيرة للكاتب الإنكليزي والتر سكوت أن هذا الكاتب على رغم كتابته روايات شديدة الحداثة (بالنسبة إلى زمنه) في مجال تصوير البيئات الاجتماعية، والحضور الطاغي للشعب، والأطر القومية التي تدور أحداث الروايات من حولها، كان على الأرجح محافظاً في المجال الاجتماعي وربما السياسي أيضاً. وبحسب كابو، أن «النساء لديه متّشحات على الدوام بقسط لا متناه من العفة، واليهود لا يصوّرهم إلا بخلاء، والقساوسة لا يتوقفون لديه عن شرب الخمر، أما الفرسان فإنهم في حلهم وترحالهم شديدو الكآبة. وكذلك فإن ريبيكا وآيفنهو لا يترددان في التضحية بحبهما على مذبح مصلحة الدولة».

والحقيقة إن قراءة معمقة وتحليلية، ليس لـ «آيفنهو» فقط، بل لروايات والتر سكوت كلها، ستضعنا أمام هذه الحقيقة التي، حتى جورج لوكاتش في كتابه المهم عن «الرواية التاريخية» لم يهتم بها كثيراً، على رغم توقفه المطول عند والتر سكوت وعند دوره الحاسم في ولادة الرواية التاريخية. وذلك، تحديداً، لأن روايات سكوت هي روايات أقنعة وتناقضات وإشارات مبثوثة هنا وهناك، يتعين على القارئ أن يستجليها باستمرار ليتمكن من الوصول إلى أي يقين تحليلي في شأنها وبشكل خاص في شأن ما يبدو لديه مسكوتاً عنه من الناحيتين السياسية والاجتماعية. فماذا إذاً كانت الروايات من القوة واستثارة المخيلات وإثارة لذة القراءة إلى درجة أن قارئها يتوه عن التحليل حين يقرأ... وحتى بعد أن يفرغ من القراءة.

ترى، هل كان عبثا من بوشكين، شاعر روسيا وكاتبها الأكبر أن يقول عن والتر سكوت وعن عمله: «إن اللذة الحقة في روايات والتر سكوت تتأتى من كوننا معها، ندرك أحداث الماضي، ليس عبر الأسلوب الأجوف للتراجيديات الفرنسية، وليس عبر منظور كرامة التاريخ، بل عبر كتابة تجعل الرواية تبدو وكأنها هي الحياة اليومية نفسها». ولأن الحياة اليومية في صفائها لا يمكنها أن تخضع مباشرة إلى التحليل المنطقي المؤدي إلى استخلاص الاستنتاجات الأكاديمية، تبدو روايات والتر سكوت حاملة لكل المواقف والاحتمالات، بما فيها تلك التي تمزج بين الموقف المحافظ، والمواقف الحداثية والتقدمية.

وفي هذا الإطار يصح الموافقة على اعتبار والتر سكوت ليس، تماماً، مخترع الرواية التاريخية، بل على وجه التحديد مخترع الرواية التاريخية الواقعية. ولم يكن لوكاتش الوحيد الذي رأى ذلك وثمّنه، بل سبقه إلى ذلك بعض كبار المبدعين، لا سيما الفرنسيون منهم - من الذين قالوا دائماً إنهم يدينون بإبداعهم إلى ذلك الرائد الاسكوتلندي الكبير، وعلى رأسهم ألكسندر دوما وأونوريه دي بلزاك، وبالطبع فيكتور هوغو.

والفرنسيون، على أي حال، محقون في تبجيلهم والتر سكوت إلى هذا الحد. فهو ملأ رواياته بشخصيات فرنسية، بل جعل من التاريخ الفرنسي موضوعاً لبعض رواياته. ومنها رواية «كوينتن دوروارد» التي نشرت في عام 1823، وترجمت من فورها إلى الفرنسية، وكان الإقبال عليها من القوة حيث أن الرسام الكبير ديلاكروا، استوحى منها شخصية وموضوع لوحة مهمة له حملت عنوان «كوينتن دوروارد» بالتحديد. ولم تكن تلك اللوحة الوحيدة التي رسمها ديلاكروا استيحاء من شخصيات سكوت، هناك أيضاً «ريبيكا يخطفها كهان المعبد» و «اغتيال مطران لياج»... وغيرهما، ومن الواضح أن اهتمام ديلاكروا الكبير بشخصيات وأحداث ترد في روايات والتر سكوت يعني أكثر كثيراً من مجرد رغبة فنان في رسم لوحات تعبّر عما لدى فنان آخر.

صحيح أن الرواية تحمل في عنوانها اسم الـفارس الاسكوتلندي الشاب الذي يقوم فيها بدور أساسي، لكن البطل الحقيقي للرواية هو الملك الفرنسي لويس الحادي عشر. وما الاسكوتلندي الشاب كوينتن سوى واحد من الحرس الشخصي للملك. وهذا الأخير إذ يلحظ وجود كوينتن وتفانيه، سرعان ما يكلفه مهمة خاصة تضع الفارس الاسكوتلندي الشاب في قلب الصراع القائم في ذلك الحين بين الملك نفسه وبين شارل دوق دو بورغوني الذي كان ينافس الملك على عرشه، وسيجابهه تحديداً في بيرون، الميدان الذي يدور فيه معظم أحداث الرواية. وهذا الصراع بين الملك والزعيم الإقطاعي هو الذي يشكل محور الرواية وموضوعها. أما حكاية الحب الهادئة والطيبة التي يعيشها كوينتن في أثناء ذلك فليست سوى الخيط الرفيع الذي يربط أحداث الرواية ببعضها البعض ويعطي العمل كله مذاقاً إنسانياً.

ومع هذا فإن أحداث الرواية لا تبدأ مع كوينتين وغرامه، بل مع المجابهة الأولية التي تضع القارئ على تماس مباشر مع شخصيتي المتجابهين وما يمثله كل منهما: الملك ذو السلطة القوية المطلقة والذي يريد أن يوحد البلد بشكل مركزي حديث (في ذلك الحين)، والزعيم الإقطاعي الذي يمثل النظام القديم بعيوبه و... لكن أيضاً بحسناته ومقدار الحنين الذي يتركه في ارتحاله. وحسبنا لندرك موقف والتر سكوت من النظامين أن نقرأ ما كتبه هو نفسه في مقدمة الرواية، بلغة غارقة في الحنين: «في ذلك الزمن كان النظام الإقطاعي (الفيودالي) وروح الفروسية قد بدآ بالانهيار معاً، إذ تخلى عنهما كل أولئك الأفراد ذوي النفوس الضيقة الذين لا يجدون سعادتهم القصوى إلا في امتلاك الحوائج الشخصية التي تعزز فردياتهم». غير أن هذا الحنين «النظري» لم يمنع والتر سكوت في سياق الرواية من أن يصف السادة الصغار كطغاة متعسفين لا يترددون في إنفاق ما يجمعونه من الشعب سلباً، على ملذاتهم الخاصة. ولم يفت سكوت أيضاً - وهو ما عابه عليه الفرنسيون الذين اعتادوا تقبّل أعماله بترحاب شديد وبخاصة إذا امتلأت بانتقادات حادة للذهنيات الإنكليزية - لم يفته أن يصف فرنسا بأنها بلد «يذرع طرقاته، ليلاً ونهاراً، مرتزقة يؤجرون سيوفهم لمن يدفع لهم الأجر الأعلى». وللمناسبة نذكر أن الفرنسيين لم يغفروا لسكوت هذا، كما لم يغفروا له أبداً بعض الأخطاء التاريخية الواردة في روايته التي رأوها فادحة: كأن ذكر نوستراداموس في الرواية في زمن يسبق مولده بـ31 عاماً، وأمات مطران لياج قبل موته في الحقيقة بسنوات... إلى آخره.

غير أن مثل هذه الأخطاء لا تقلل بالطبع من أهمية عمل والتر سكوت. فأهميته الحقيقية تكمن في تفسيره هو نفسه لما يجب أن يكون عليه النص الروائي الحقيقي المثالي إذ يقول إن غايته كانت في الأساس إسداء التحية إلى الماضي وناسه الذين «نحيّيهم مع أننا ندرك أن عليهم أن يندمجوا في الحاضر لجعله يثمر»، أما «التناقض الحي الذي ينتج من التعارض بين العادات القديمة وتلك التي تحل محلها في شكل تدريجي، فإنه هو الذي يقدم لنا الضوء والظل الضروريين لإعطاء فاعلية جيدة للنص المثالي».

والحال أن معظم روايات والتر سكوت (1771- 1832) كانت، ولا تزال، مليئة بمثل تلك الأضواء والظلال. وهو كان منذ طفولته، المريضة والمشوهة، نهماً إلى التاريخ وإلى الغوص فيه. فهو أصيب باكراً بشلل الأطفال الذي جعله يعرج طوال حياته. وأقعده في طفولته فانصرف إلى قراءة كل ما كان يقع تحت يديه من كتب، لا سيما منها ما يتناول تاريخ وطنه اسكوتلندا وأساطيره. وهو بعد ذلك درس الحقوق، لكن كلفه بالتاريخ والأدب قاده إلى التوغل في قراءة أحداث الماضي على ضوء أفكار التنوير المحملة بالحتمية التاريخية والأبعاد القومية الجديدة. وهكذا تضافر هذا كله لديه، إلى جانب معايشته لهزيمة بريطانيا في حرب الاستقلال الأميركية، ذهنياً، والثورة الفرنسية واستشراء النزعات القومية وانطلاقة الثورة الصناعية، ما ألبس أدبه الذي بدأ يكتبه باكراً، شعراً ثم نثراً، أردية جديدة. وهذا كله طبع أعماله الكبيرة من «ووفرلي» إلى «آيفنهو» ومن «روب روي» إلى «كوينتن دوروارد» ومن «خطيبة لا مرمور» إلى غيرها من أعمال ألهم بعضها ملحني الأوبرا ثم السينمائيين ناهيك بملايين القراء وفي مختلف اللغات.

الحياة