السينما السياسية الإيطالية، هل هي صراع بين ثقافتـين؟
سهيل الذيب سهيل الذيب

السينما السياسية الإيطالية، هل هي صراع بين ثقافتـين؟

بعد صراع المستعمرين في الحرب العالمية الثانية وتقاسم العالم بينهم وبروز قطبين: أميركا والغرب من جهة والاتحاد السوفييتي وكتلته الشرقية من جهة أخرى, قسم العالم أيضاً إلى ثقافتين مختلفتين هما الرأسمالية والاشتراكية,

 وطبعت آلاف الكتب والمجلات التي ساهمت في تعزيز إحدى الثقافتين على حساب الثقافة الأخرى المعادية, ولعل السينما كانت من المجالات الأرحب لتعزيز هذا الصراع حتى في المعسكر نفسه, ولا أدل على ذلك إلا السينما الغربية وأخص منها السينما الايطالية التي كان لها قصب السبق للتعرض إلى الامبريالية ومساوئها من خلال أفلامها الجادة الرصينة التي دافعت بها عن الطبقات الكادحة الفقيرة وذلك بعيد الحرب بقليل حيث كانت الولادة السياسية للأفلام الايطالية المولودة من الواقعية الجديدة ويعد العام 1955 عيد ميلاد تلك السينما.

الجذور الأولى

قد يكون فيلم «جيوفانا» لجيلو بونتيكور فرو الايطالي البذرة الأولى لتلك السينما التي اعتمدت في أكثر أفلامها على الوجوه الجديدة غير المنحرفة, بعض النقاد يرون أن السينما السياسية بدأت مع الأفلام التسجيلية السياسية لفيرنوف الروسي وإيفانس الهولندي وغيرهما وهذا صحيح إلى حد ما ذلك أننا نتحدث عن السينما الروائية السياسية التي كانت اللبنة الأهم والأكثر تأثيراً على الفكر العالمي ولاسيما عندما تبلورت في الستينيات وفرضت نفسها في بداية السبعينيات من خلال عدة أفلام لعل أهمها «الطريق الأزرق الطويل» 1958 لبونتيكورفرو و«التحدي» لفرانشيسكو روزي إضافة إلى فيلم «الطبقة العاملة تذهب إلى الجنة» للايطالي اليوبيتري, ويعدّ بونتيكو فرو الدعامة الأولى لهذا النوع من الأفلام وقد ولد 1919 في مدينة بيزا وفي جامعتها درس الكيمياء وتخرج ولكنه اتجه إلى السينما فعمل مساعد مخرج وأخرج عدة أفلام تسجيلية قصيرة ثم أخرج «جيوفانا» الذي يتحدث عن الظلم الذي يحوق بصيادي الأسماك بعد ذلك أخرج «كابو» 1960الذي عرض فيه لحياة فتاة من ضحايا المعسكرات النازية, أما الفيلم الأهم فكان «معركة الجزائر» عام 1966 الذي حصد الجائزة الأولى في مهرجان «فينيسيا» وفي العام 1970 أخرج «كويمادا» البطلة مارلون براندون وفي الفيلمين الأخيرين يتناول قضايا العالم الثالث من وجهة نظر ماركسية أو لنقل يسارية.
ومن الأفلام المهمة أيضاً فيلم «قضية ماتييه» لفرانشيسكو روزي الذي تقاسم الجائزة الكبرى في «كان» مع فيلم «الطبقة العاملة» لايليو بيتري في عام 1972 وللممثل نفسه «جان ماريا فولونتي» والفيلم يبدأ بحادث انفجار طائرة المهندس أنريكو ماتييه فوق ميلانو 1962 حيث لم يبق من أشلائه إلا عشرة كيلوغرامات وينتهي الفيلم بصوت ماتييه: سوف أحارب الاحتكار في كل مكان وإذا لم أنجح فسوف تنجح الشعوب التي تمتلك البترول, وماتييه هو محارب حقيقي ضد الامبريالية فهو حين يحلق في رحلته الأخيرة من صقلية التي احتفى به فقراؤها ونسج لهم في خطاب ثوري حلم الكفاية والعدل إلى ميلانو، يقول له الطيار: «انظر إلى القمر» وكان منيراً بين السحب فيجيبه: وهل فيه بترول.
وكمعظم الأفلام السياسية فإن جمالياتها تنبع من أفكارها النبيلة وأهدافها الأخلاقية العظيمة وهي تكاد تخلو من جماليات التأثيرات السينمائية ولغتها مباشرة تقريرية، وفي هذه العجالة عن السينما السياسية الإيطالية وماحملته من رؤى وغايات نبيلة نستذكر المخرج العبقري فيدريكو فيلليني في حديث عن فيلمه «أماركود» 1973 حيث يقول: «أصبحنا الآن نعاني من شعور بالعجز والخوف.. الناس يتصرفون بغرور يائس ومقهور، وأصبحت تمتلكنا مسألة حماية مكاسبنا الشخصية بطريقة مؤلمة وعنيفة ولكن علينا أن نتغير» ويحتل فيلليني مكاناً خاصاً في تاريخ السينما كلها والإيطالية بوجه الخصوص بسبب من واقعيته واستعماله لغة سينمائية شاعرية فريدة من نوعها وبأسلوبية شديدة الخصوصية لدرجة أن نسب إليه هذا الطابع «الإخراج الشخصي» أو سينما المخرج والذي يقوم على أساس الترجمة لحياته وهذه السينما لاتعتمد الحكاية في سرد الفيلم وإنما على نتف من هنا وهناك يربطها خيط رفيع وقد يعتمد على مجموعة من التقارير والتحقيقات التي تكمل بعضها بعضاً، أما فيلمه «ساتريكون» فهو لبترون وهو فيلسوف وروائي عاش في القرن الأول الميلادي في عصر نيرون وقد قدم فيه فيلليني مرثية بكائية لعالم يأكل بعضه بعضاً في صور سينمائية استثنائية ويرى فيلليني أن رواية الكاتب ليست تاريخية وإنما معاصرة وأجمل مافيه ذلك المشهد الذي يوصي فيه الشاعر بثروته
للذين يأكلون جثته حيث يجتمع العجائز والشباب الذين أغرتهم التركة لأكل جثته وكأنما أراد المخرج التذكير بصورة ما بصلب المسيح الذي يقول لصالبيه, بعد أن سرقوا ثيابه بل تنازعوها: يا أبت اغفر لهم لأنهم لايدرون ماذا يفعلون.

نافلة القول

هذا مختصر شديد عن السينما السياسية الايطالية التي أغفلت الكثير من مخرجيها الكبار  وأعمالهم لأسباب واهية لكن المهم أن هذه السينما بدت مدافعة عن أفكارها المناقضة لأفكار السينما الأميركية التي غزت العالم وأرادت فرض ثقافتها عليه من خلال العولمة أو القوة المطلقة العمياء وبرز السؤال الأهم هل السينما صناعة أم فكر وفن؟ وبكل الأحوال يبدو لي أنها كل ذلك سواء قدمت أفكاراً نبيلة أم هدامة ولكنها حملت صراعاً بين عامين وبين فكرين وحتى بين تقنيتين الأولى تعتمد الإنتاج الضخم المكلف المبهر ولكنه في أغلبه هدام للقيم والأخلاق ويسير ضمن منهجية كاسحة تصعب مواجهتها, وبين تقنية وكلفة زهيدة لكنها تقدم أفكاراً إنسانية تحاول صد الهجمة الأميركية وإن ببساطتها وقربها من الناس ولعل السينما السياسية الايطالية تمثلها خير تمثيل فقد قدمت مثالاً رائعاً للثقافة الرصينة والجادة.

 

تشرين