وصفة مجرّبة من مرحلتين

وصفة مجرّبة من مرحلتين

انزل إلى الشارع

تحمل عبارة «النزول إلى الشارع» في ثناياها افتراضاً بأن الشارع واطئ، وأننا نعيش في مكانٍ مرتفع عنه، ماذا عن ساكني الطوابق الأرضية أو الأقبية مثلاً؟ هم يصعدون إلى الشارع ولا ينزلون إليه! وبالرغم من أن كلمات بعض «المثقفين» الآمرة بضرورة النزول إلى الشارع، تبدو كما لو أنها دفاع عن هذا المكان المسمّى «شارع»، إلا أنها في حقيقة الأمر  تجعله أكثر بعداً مما هو عليه، كما أنها تقتطعه من سياقه الجغرافي والمكاني، وتعزله عن كونه مفصلاً بين وجهات وحاراتٍ مختلفة.
أحياناً، وحينما يحاصرك أحدهم بضرورة النزول إلى الشارع الذي رسمه في خياله، ترغب في سؤاله: أين يقع الشارع الذي تتحدث عنه تحديداً؟! أنا أعبر كل يومٍ شوارع وأزقة في طريقي للعمل أو الجامعة أو لزيارة صديق، أمشي وأمشي لشراء حاجياتي أو لمجرد إشباع الرغبة بتأمل وجوه العابرين ولم أره يوماً! أنا أعبر عشرات الشوارع كل يومٍ دون أن أتوقف عند ذلك كثيراً! ثم إنني كنت للتو في الشارع، ولم أرك هناك!.

اندمج مع الشعب!
غالباً ما يطالبك الشخص ذاته الذي أخبرك بضرورة النزول إلى الشارع، بوجوب الاندماج بفئات الشعب المختلفة، كما لو أنهما خطوتان متلاحقتان: في البداية انزل! ثم اندمج!!
وإذا ما حاولت اتباع المراحل كما يجب: تنزّل إلى الشارع متوجّساً، وتبدأ بمراقبة العابرين والتفرّس في الملامح، بحثاً عن تلك الوجوه الأكثر تعباً، الأشد فقراً، والتي تنقض عليها دون مقدمات لتنفيذ مهمة الاندماج.
وبالرغم من أن أصحاب تلك الوجوه، قد لا يمانعون اصطحابك في جولةٍ سياحيةٍ بين شرائح وطبقات الشعب، فيما يقصّون عليك حكاية حياتهم المثقلة بالمآسي، وأنت يتغضّن وجهك وتمتلئ عيناك بالدموع من هول ما سمعت، فيحاولون مواساتك وتخفيف الضغط النفسي الذي تركته كلماتهم، ثم يعتذرون منك بنوعٍ من الخجل ويكملون عملهم لأن لا وقت لديهم كي يضيعوه. قد يواجهك آخرون باستهزاء ساخر: فأنت لست السائح الأول الذي أزعجهم ضمن رحلة بحثه عن «الحقيقة»!
وربما أنك لم تشعر قبلاً بأنك خارج الفئة التي تسمى «شعباً» قبل أن يعذبك ذاك الآخر بحديثه المحموم عن ضرورة (الاندماج)، ولم تشعر قط بأنك أضعت الشعب حتى بدأت البحث عنه!
وإذا ما ترك المرء السخرية جانباً، سيعترف مرغماً بأنه بالتأكيد يجب أن يكون في الشارع سواء صعد أو نزل إليه، وأن الشارع مسير إجباري، معبر، وأحياناً ما يغدو ساحةً للتجمع، إلا أن الوجهة التي يختارها الناس، الذين تجمّعوا فيه هي التي تهمّ حقاً. سيعترف المرء أيضاً بأنه ربمّا لم يكن يعرف عن قرب جميع فئات وشرائح المجتمع الذي عاش فيه، إلا أنه وفي الوقت ذاته، لم يكن خارج هذا التصنيف، وربما مرّ اسمه مصحوباً بمعلومات عن عمره ومهنته ومستواه الاجتماعي في إحدى الإحصائيات.
تضعك محاولات تحديد الكتلة البشرية «الشعبية» في حيرة، تجد نفسك محدداً بمفهوم ذاك الآخر عن الشعب، تضيق ذرعاً به، وبكلماته وخططه، وترغب أن تصرخ في وجهه قائلاً: «وأنا أيضاً الشعب، أنا الشعب»!