إنتاج القمح يسجل أكبر تراجع له منذ عقدين تقريباً.. والتبرير «عذر أقبح من ذنب»

إنتاج القمح يسجل أكبر تراجع له منذ عقدين تقريباً.. والتبرير «عذر أقبح من ذنب»

أن تعجز وزارة الزراعة في بلد كتركمانستان عن تحقيق المستهدف من إنتاج القمح لعام واحد فقط، وتحقيقها 82% من الخطة الإنتاجية لعام 2011، فهذه جريمة تقابل بعزل وزير الزراعة، وإقالة عدد كبير من مسؤولي الوزارة المحليين في شتى أنحاء البلاد، لكن تدمير قطاع زراعي بأكمله على مر سنوات في سورية، وتراجع إنتاج القمح بنسبة تتراوح بين 30 -50% على امتداد أعوام عدة، فهذا إنجاز يكافأ عليه وزراء الزراعة بتعيينهم رؤساء حكومات لحكومات متعاقبة، وهذه مفارقة لم يكن لأحد أن يتخيلها، إلا أنه سمعها ولمسها واقعياً في بلد يعتبر فيه المسؤول على صواب دائماً، فكل ما يقوله صحيح، وتحميله الجفاف وزر تراجع إنتاجية أهم قطاع اقتصادي أمرُ أقل من طبيعي، وعلى الجميع تصديقه، ونشر مقولته كالوباء بين المتابعين، أليس في ذلك جريمة اقتصادية كبرى تجاهل القانون وضع عقاب لها ؟! فلمَ يستباح الأمن الغذائي للسوريين دون محاسبة أو رقابة؟!

تراجع الإنتاج 56.5%

في جديد الواقع السيئ الذي يعيشه إنتاج القمح في البلاد، أعلن مدير مؤسسة الحبوب تراجع إنتاج سورية من القمح بنسبة 40% في عام 2012، أي إلى مليوني طن في العالم الحالي، بينما خططت وزارة الزراعة لإنتاج 4.6 مليون طن، وفي النسب المعلنة خطأ كبير، فنسبة تراجع الإنتاج الفعلي مقارنة بالمتوقع (3.7 مليون طن) بلغت 46%، بينما تراجع الإنتاج الفعلي مقارنة بالمخطط يصل إلى 56.5%، أي أن وزارة الزراعة لم تحقق سوى 43.5% من خطتها الإنتاجية، وهذا ما يحققه المحصول المروي وحده في أحسن الأحوال، ونحن هنا أمام فرضيتين، إما تراجع مساحات المروي من القمح لارتفاع تكاليف الإنتاج، أو خروج عدد كبير من أراضي البعل من الإنتاج، وكلا الفرضيتين تصح أمام تراجع غير مقبول في الإنتاج وبهذه النسبة الكبيرة..

أكبر انخفاض خلال عقدين من الزمن

إنتاج القمح في هذا العام هو الأقل منذ أكثر من عشرين عاماً على أقل تقدير، إن لم نقل في أسوأ الأحوال منذ إعلان سورية تحقيقها الاكتفاء الذاتي في عام 1994، وسلاسل الإنتاج الزراعي هي من تؤكد أنه ومنذ عام  1998 وحتى الآن كان إنتاج سورية يفوق 4 مليون طن، باستثناء انخفاضه إلى 3 مليون طن في عام 1999 و 2000 فقط، ثم بدء سلسلة من التراجعات إلى 3 مليون في عام 2009 و2010، وتراجعه إلى 2 مليون طن في عام 2008 و 2011، فكيف لا يتراجع إنتاج القمح سوى عامين إلى 3 مليون طن خلال عقد كامل تقريباً (1998 – 2007)، بينما تشهد السنوات الخمس اللاحقة لهذا العقد تراجعاً لا تقل نسبته عن 40% لمعدل الإنتاج في السابق؟! فهل يمكن أن نحمل كميات الأمطار والأحوال الجوية مسؤولية هذا التراجع كما تدعي مديرية الحبوب ووزارة الزراعة؟!

«عذر أقبح من ذنب»

فالعذر وعلى قولة المثل «أقبح من ذنب»، لأن تحميل الأحوال الجوية مسؤولية العبث بالأمن الغذائي لا يمكن قبوله، فأين التخطيط الزراعي؟! وأين الأصناف الزراعية المقاومة للجفاف؟! وأين المساحات الرئيسية المزروعة التي يجب أن تكفل تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح على أقل تقدير، فإلى متى سيستمر القدر هو المنهجية السائدة في التعاطي مع أهم قطاعاتنا الإنتاجية، والكفيل بتحقيق الأمن الغذائي، والاستقرار الوطني، واستقلالية أي قرار سياسي، و»الأنكى» من كل ذلك، إذا كان هذا العذر كذباً..

المروي ينتج 70% من المخطط منفرداً!

المنتج الأساسي للقمح هو حلب والحسكة، وكمية الأمطار التي هطلت في محافظة حلب خلال عام 2012 حتى 26 من شهر حزيران الماضي تتراوح بين 214 مم إلى 644.5 مم، وذلك تبعاً لمناطق الاستقرار الخمس، بينما تراوحت هذه الكمية خلال الفترة ذاتها من العام الماضي بين 159.5 مم إلى 392 مم، وذلك مقارنة بمعدل عام يتراوح من 167.7 مم و 364 مم، أي أن هناك ارتفاعاً بنسبة الأمطار بنسبة 30% تقريباً في الحدين الأدنى والأعلى، بينما تراوحت كمية الأمطار في محافظة الحسكة بين 118 مم و 354 مم في العام الحالي، مقارنة بالعام الماضي الذي تراوحت فيه كمية الأمطار بين 124 مم و 484مم، والحد الأدنى من الأمطار متقارب، بينما تراجع الحد الأعلى بنسبة 30%، فهل يمكن تحميل هذا الانخفاض في الأمطار مسؤولية التراجع في إنتاج القمح؟! علماً أن حصة المزروع بالري من القمح في محافظة الحسكة يبلغ 270 ألف هكتار مقارنة بنحو 390 ألف هكتار حصة البعل، أي أن حصة المروي تصل إلى 41%، وهذا يعني أن المساحات المروية يفترض بها إنتاج ما يقارب 70% من المخطط، أن إنتاجية المروي أعلى بالتأكيد، أي ما يقارب 3.2 مليون طن من القمح، بينما الإنتاج الفعلي 2 مليون فقط، ألا يعني ذلك أن الفلاح السوري قد آثر عدم الزراعة لتضاؤل أرباحه المفترضة، وإلا بماذا يمكن تفسير هذا التراجع؟!

شواهد واقعية

من منطقة الجزيرة شواهد لا تحصى عن عزوف فلاحين «بالجملة» عن العمل في الزراعة، فأحد العاملين في هذا القطاع يروي لنا حقيقة ارتفاع تكاليف العملية الزراعية، فهو من زرع 80 دونماً من القمح المروي، واستخدام المازوت في عملية الري، لتكون النتيجة، دفع ما يقارب 350 ألف ليرة كتكاليف إنتاج مختلفة من الري إلى الحراثة والأسمدة والبذار، بينما باع مجمل إنتاجه بنحو 400 ألف ليرة، أي أنه لم يحقق سوى هامش ربح 50 ألف ليرة لموسم كامل، وهذا الهامش لا تتعدى نسبته 14% فقط، وهذه النسبة لا يرضى بها تاجر سوق الهال على وضعه الإنتاج الزراعي لديه لبضع ساعات فقط، بينما يفترض أن يكون هامش ربح الفلاح 25% بالحد الأدنى...

فمن يزرع القمح بالري ليس أمامه في سورية سوى خيارين، الأول رابح، وهو الري باستخدام الكهرباء، وهذا يحقق هامش ربح صغير، ولكن ليس لكون الكهرباء أرخص من سواها، بل لأن بإمكانه «التملص» من دفع فاتورة الكهرباء، وهذا ما يحصل فعلياً، بينما من يروي باستخدام المازوت، فإن هامش ربحه يكاد ينعدم، ولا يتناسب مردود عمله مع تكاليف العملية الإنتاجية، لارتفاع تكاليف حراثة الأرض، لأن سعر ليتر المازوت يباع بأربعين ليرة في هذه الأيام، وهذا الفارق يدفعه الفلاح، بالإضافة لارتفاع أسعار الأسمدة والبذار، وكل ذلك يضيّق هامش أرباح الفلاح السوري..