الدين العام الأمريكي.. فاتحة لأزمة الدولار

الدين العام الأمريكي.. فاتحة لأزمة الدولار

نشرت قاسيون في العدد رقم (629) ملفاً بعنوان (أزمة الدين الأمريكي.. تسويف وليس حل)، وكان الملف استعراضاً لمفهوم الدين العام، واستعراضاً لشكل تجلي أزمة الرأسمالية العالمية حالياً في مركزها الرئيسي الولايات المتحدة الأمريكية من جهة، وفي قطاعها الأول وهو القطاع المالي متمثلاً بأزمة دين الحكومة الأمريكية، وأزمة عملة التداول التجاري العالمي الأولى الدولار الأمريكي..

حيث بينا في المقالة السابقة أن الدين الأمريكي ناتج عن النمو المتصاعد في معدل النفقات مقابل تراجع معدل الإيرادات بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، ودون الخوض أكثر في أسباب هذه العلاقة، والتي ترتبط بشكل مباشر بالتحول في بنية الرأسمالية الأمريكية التي استدعى تطورها أمرين اثنين، زيادة الإنفاق الحربي، وإعطاء الضوء الأخضر لهيمنة القطاع المالي على الاقتصاد عبر إعفاءات ضريبية على كبريات الشركات والمؤسسات المالية كي تهيمن على الاقتصاد العالمي.

انخفاض الإيرادات الضريبية

 فرغم أن معدل الضريبة على رأس المال في الولايات المتحدة مرتفع نسبياً (يبلغ 18% على رأس المال في الولايات المتحدة مقابل 10% في اليابان وبريطانيا و 25% في كل من كندا وفرنسا وألمانيا). لقد شكل ارتفاع المعدلات الضريبية في الولايات المتحدة بالمقارنة مع باقي دول العالم الرأسمالي ذريعة للساسة الأمريكيين للدفع الدائم لتخفيضات ضريبية، تكون بمثابة حوافز لرأس المال من أجل مواجهة رأس المال العالمي الذي قد يتمتع في دول أخرى بمستوى منخفض من الضرائب.
أدت هذه السياسة إلى انخفاض مضطرد في حصة العوائد الضريبية من الناتج المحلي

العام                         2000    2010    2013
نسبة ايرادات الضرائب من الناتج الإجمالي  20,6%    15%       16%

ومن المعروف هنا أن عجز الموازنة المزمن والذي يمول غالباً عن طريق الدين العام تؤدي بشكل مباشر إلى تراجع كبير في قيمة العملة المحلية لأي دولة وفي الحالة الأمريكية تعني انخفاض قيمة الدولار، ولكن الدولار الأمريكي محمول على دعامتين رئيسيتين الأولى هي الاقتصاد الأمريكي نفسه، والثانية هي الاقتصاد العالمي وفي هذا العدد سنسلط الضوء أكثر على الاقتصاد الأمريكي، وهما مرتبطان بعلاقة جدلية، وسنؤجل الحديث عن الاقتصاد العالمي إلى عدد لاحق.

دعائم واهية للدولار داخل الاقتصاد الأمريكي

لا يمكن الحديث عن أزمة الدين العام الأمريكي دون الولوج لأزمة الدولار ذاتها، فالدولار هو المتغير الأبرز المتأثر باستمرار العجز، وهو بدوره يعود ليؤثر على الاقتصاد الأمريكي والعالمي بآن معاً. إن عوامل قوة الدولار كعملة محلية هما أمران:
الأول: الاحتياطيات الذهبية والنقدية التي يملكها الفيدرالي الأمريكي ونجد في هذا السياق أن الولايات المتحدة تملك أكبر رصيد احتياطي من الذهب، وهو المقدر بـ (11) مليار دولار فقط، بينما يبلغ مجمل الاحتياطيات النقدية للولايات المتحدة وفقاً لبيانات البنك الدولي (575) مليار دولار، وهو رقم متواضع أمام ما تملكه الصين (3,2) ترليون دولار، أو اليابان (1,2) ترليون، روسيا (537) مليار دولار، والجزائر (200) مليار دولار.
تظهر الأرقام السابقة ضآلة حجم الاحتياطيات النقدية والمخزون الذهبي مقابل حجم الدين الهائل البالغ (16) ترليون دولار تقريباً، وهو ما يعني أن هذا الرقم المتواضع عاجز عن تأمين أي سيولة لمواجهة مخاطر سداد الدين العام أو حتى فوائده.
لا تمثل الاحتياطيات النقدية أيضاً مبالغ جدية في مواجهة الأزمة فكل الاحتياطي النقدي غير الذهبي لا يتجاوز (135) مليار دولار، أي أن الولايات المتحدة وفيما لو اعتمدت على احتياطياتها النقدية غير قادرة على مواجهة مصاريفها لأسابيع.
الثاني: حجم الناتج الصناعي الأمريكي
السمة الرئيسية لنمو القطاع الصناعي الأمريكي هي الهبوط، حيث أن وسطي نمو القطاع الصناعي في عقد من الستينيات إلى السبعينيات بلغ 10%، بينما في العقد الأخير بلغ وسطي نمو القطاع الصناعي 5% مع انخفاض معدل النمو الصناعي في عام 2009 عام الأزمة المالية ثم انكمش إلى -12%، لينتعش في عام 2011 إلى 6%، ويعود الميل الهابط ليتسارع حيث يقدر في عام 2013 بـ 4%..
تستطيع الولايات المتحدة أن تعتمد على ثقة القوى الدولية بدولارها طالما أنه مستند إلى دعامة اقتصادية متينة، وفي هذا المجال نجد أن الناتج الصناعي الأمريكي هو أهم دعامة اقتصادية فرغم تراجع حجمه من الناتج المحلي الأمريكي إلا أنه لا يزال يتمتع بحجم كبير في الناتج الصناعي العالمي. وتشير الأرقام إلى ما يلي :

الدولة              الحصة من الناتج الصناعي العالمي
الولايات المتحدة                                              24%
الصين                                                   15%
اليابان                                                   14%
ألمانيا                                                     5%

حقيقة إن اعتماد الولايات المتحدة على صناعتها في إضفاء الثقة على الدولار هي عملية غير مستقرة مع استمرار الركود، وتراجع النمو ليس على صعيد الولايات المتحدة بل على مستوى كل العالم. يضاف إلى ذلك أن جزءأ هاماً من هذه الصناعة تستهلك داخل الولايات المتحدة فنجد أن حصة الصناعة الأمريكية في التجارة الدولية هي أقل من نظيرتها الألمانية على سبيل المثال، وهذا يعني أن القوى الاقتصادية الدولية قد تكون غير مضطرة للطلب العالي على الدولار، طبعاً هذا فيما لو كانت التجارة الدولية غير مقيمة بالدولار، والواقع يقول غير ذلك. وفيما يلي سنستعرض حصة الناتج الصناعي للدول ذاتها من التجارة الدولية:

الدولة          حصة الصناعة من التجارة الدولية
الولايات المتحدة                                         8%
الصين                                            14%
اليابان                                           6,5%
ألمانيا                                         10,2%

أي أن حماية الدولار عبر الطلب الدولي على الصناعة الأمريكية أمر غير مضمون.

ويبقى في إطار التحليل المتكامل أن نضيف متغيراً أساسياً لمعرفة إمكانية تعثر حماية الدولار عبر الدعائم التي تكلمنا عنها سابقاً، ويبقى في هذا المجال استعراض دور التجارة الدولية، وهي المقيمة بالدولار منذ اتفاق بريتون وودز الشهير عام 1945، كدعامة أساسية في الحفاظ على قيمته وبالتالي تخفيف ضغوطات الدين العام على الدولار، وهذا ما سنتطرق إليه في العدد القادم.

الدين يهدد الدولار الضعيف..

خطر استمرار وتفاقم الدين العام بشكل رئيسي هو تأثيره على قيمة العملة، وبالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية هو خطر يهدد نقطة قوتها الرئيسية أي الدولار، وطالما أن الإيرادات الأمريكية في تراجع فإن العجز سيستمر بالتفاقم، وبالتالي ستستمر الولايات المتحدة الأمريكية بالاستدانة لتمويل نفقاتها، والتي رغم محاولات تخفيضها تبقى أكبر من الإيرادات المتراجعة الناجمة عن انخفاض نسبة الضرائب من الناتج، وذلك بنتيجة محاباة الشركات الكبرى وتخفيض حصيلة الضرائب منها.. الولايات المتحدة الامريكية تعي مسألة تراجع قيمة الدولار وتقوم بحمايته بدعائم اقتصادية سياسية الخارجي منها هو هيمنة الولايات المتحدة على التجارة الدولية ودورها العسكري الذي يستحوذ جزءاً كبيراً من نفقاتها، بالإضافة إلى دعائم داخلية تتثمثل باحتياطاتها الذهبية بالمقدمة ومن ثم النقدية (عملات أجنبية- سندات الخزينة..) التي تفقد أهميتها مع تراجع قيمة الدولار وتراجع الثقة بقدرة الولايات المتحدة على تسديد ديونها.. كما أن إمكانياتها الصناعية تعد الركيزة الثانية والتي بيّنا تراجعها.. سيتم في الملف القادم مناقشة دعائم حماية قيمة الدولار على الصعيد الخارجي..