ما الذي قاله بن سلمان؟ هل تذهب السعودية للتطبيع مع الكيان فعلاً؟

ما الذي قاله بن سلمان؟ هل تذهب السعودية للتطبيع مع الكيان فعلاً؟

أثارت تصريحات ولي العهد السعودي حول المفاوضات الجارية بهدف الوصول إلى اتفاق بين المملكة والكيان الصهيوني الكثير من الاهتمام الإعلامي وردود الفعل على كافة المستويات، فالمفاوضات التي ترعاها واشنطن منذ مدة طويلة لم تحرز حتى اللحظة تقدماً حقيقياً، لكن تصريحات ولي العهد بدت مختلفة بنظر البعض، فهل يمكن الحديث فعلاً عن تقدّم ما في هذا السياق؟ أم أن المراوحة في المكان لا تزال سمة أساسية لهذه المفاوضات؟

أجرت قناة «فوكس نيوز» الأمريكية، في 20 أيلول الجاري، لقاءاً مطولاً مع ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، تحدث فيه عن جملة واسعة من قضايا شديدة الأهمية ترتبط بمستقبل المنطقة ككل، ومع ذلك ركّزت وسائل الإعلام على ما قاله حول مفاوضات جارية مع الولايات المتحدة ترتبط بقيام علاقات مع الكيان الصهيوني، وذلك رغم كون هذه المفاوضات قائمة منذ مدة طويلة بالفعل.

عن مصدر هذا الاهتمام

الاهتمام الذي تلقته هذه التصريحات يبدو مبرراً، ولكن لا بد لنا أن نميّز بين نوعين لهذا «الاهتمام». فالأول، ناتج عن درجة عالية من التعاطف مع القضية الفلسطينية، وهو بحد ذاته مؤشر إيجابي، يعكس ضمنياً فشل محاولات منظّمة استمرت لعقود لتحييدها، وإشغال شعوب المنطقة عنها، ويذكّر مجدداً أن بوصلة الشعوب لن تتغير، وكل من ينزلق نحو التطبيع والصفقات المشبوهة، سيجد نفسه، أياً يكن، أمام موجة من غضبٍ شعبيٍ لا يمكن إيقافه. لكن في الوقت ذاته، يمكننا الانتباه إلى نوعٍ آخر من الاهتمام بتصريحات بن سلمان. نوع يرتبط بشكل مباشر بالمحاولات الأمريكية والصهيونية للاستثمار بأي تفصيل صغير وتضخيمه بغية التستر على أزمة متفاقمة، وسعي دائم لخلق انتصارات في الإعلام لا تعكس بشكلٍ دقيق ما يجري في الواقع فعلاً. ومن هنا بالتحديد يبدو ضرورياً وضع تصريحات بن سلمان في سياقها - دون اجتزاء - في محاولة لفهم الموقف السعودي العميق، لكن تصريحات حصلت عليها «فوكس نيوز» أيضاً لرئيس الوزراء الصهيوني ستكون تمهيداً جيداً لهذا الموضوع، فنتنياهو، أشار إلى اقتراب «السلام» حسب تعبيره، وأشار إلى أن هناك فرصة للوصول لاتفاق ما مع السعودية، لكنه أشار أيضاً إلى أن تأخير إنجازه ربما يطوي صفحة الاتفاق لعدة سنوات.

ماذا قال بن سلمان بالضبط؟

أكد ولي العهد السعودي مجدداً وجود مفاوضات حول المسألة، ونفى كل التقارير التي تحدثت عن تعليقها، وأجاب عند سؤال حول «ما الذي يلزم لتوافق على تطبيع العلاقات مع إسرائيل؟» أجاب أن هناك مسعى من الرئيس بايدن للوصول إلى هذه النقطة، وأضاف أنه بالنسبة للسعودية تعتبر القضية الفلسطينية قضية مهمة للغاية، وينبغي حلّها، ليضيف بأن المفاوضات مستمرة «بشكلٍ جيّد» حسب توصيفه، وبأنه يأمل أن تكون النتيجة النهائية لصالح الشعب الفلسطيني وتخفف من معاناته، وأن تكون «اسرائيل» لاعباً في المنطقة. وعند محاولة أخرى من المحاور في القناة الأمريكية لفهم إن كان بن سلمان على استعداد لعقد اتفاق مع نتنياهو في إشارة ضمنية إلى كون الأخير يقود أكثر حكومة متطرفة في تاريخ «إسرائيل»، أعاد بن سلمان التذكير بأن لا علاقات تربط بين المملكة والكيان حالياً، وقال إن نجحت إدارة بايدن في تغيير هذا الواقع - وهو ما وصفه بأنه سيكون أعظم صفقة تاريخية أنجزتها الولايات المتحدة منذ انتهاء الحرب الباردة - ستكون المملكة حينها مستعدة للتعامل مع أي حكومة موجودة. بشرط النجاح بالوصول إلى اتفاق «يلبي احتياجات الفلسطينيين ويجلب الهدوء إلى المنطقة».
ما سبق يمكن أن يكون تكثيفاً للإجابات القليلة التي قالها ولي العهد حول المسألة، ويبدو واضحاً أن الموقف السعودي الذي أُعلن عنه في مرات سابقة لم يتغير أو لم يعلن خلافه، إذ كانت المملكة قالت في وقت سابق، إن الوصول إلى اتفاق مع الكيان مرهون بإيجاد حل للقضية الفلسطينية على أساس قرارات مجلس الأمن، ومبادرة السلام العربية التي أُعلنت في بيروت بمبادرة سعودية في حينه، والتي نصّت على ضرورة انسحاب الكيان من كل الأراضي العربية المحتلة في فلسطين وسورية ولبنان، والعودة إلى حدود 67، وضمان حل قضية اللاجئين الفلسطينيين بشكل عادل وعلى أساس القرارات الدولية، وضمان قيام دولة فلسطينية ذات سيادة، عاصمتها القدس الشرقية. وتقول المبادرة أن تحقيق هذه الشروط سيسمح للدول العربية أن تعتبر النزاع العربي الإسرائيلي منتهياً، وهو ما يمهد لقيام علاقات طبيعية.

الموقف الصهيوني لم يتغير!

في الجهة المقابلة بدت التصريحات الصهيونية شديدة العدوانية تجاه الفلسطينيين، وحاول مسؤولون في الكيان التخفيف من موجة الاستياء والتحذيرات التي تقودها الكتلة اليمينية الأساسية في الحكومة، والتي تهدد بالانسحاب في حال تقديم أي «تنازل» للفلسطينيين، ففي تصريحات حصلت عليها قناة «كان» الصهيونية لممثل «إسرائيل» في الأمم المتحدة جلعاد أردان قال إن: «اتفاق تطبيع مع السعودية سيحاصر الفلسطينيين وسيقلص من تأثيرهم، وسيسهم في عزلهم وسيتركهم وحيدين» وفي السياق ذاته، حاول بنيامين نتنياهو إرسال رسائل متناقضة أملاً في تخفيف ردود الأفعال، فأكد التزامه «بأمن إسرائيل» بأنه لن يعرضه للخطر في أيّ اتفاق، وبرغم تأكيده وجود خلافات حول هذه المسائل داخل الأطراف السياسية المؤثرة داخل الكيان، ادعى أنه قادر على حلّها، واعتبر أن «السلام مع الدول العربية سيزيد من احتمالات التوصل إلى سلام مع الفلسطينيين» ما يشير إلى أن الكيان يرى أن اتفاقات التطبيع يجب أن تكون سابقة على حل القضية الفلسطينية لا نتيجة لها، وأضاف في السياق نفسه أنه: «إذا ما رأى الفلسطينيون غالبية العالم العربي يتصالح مع إسرائيل، فسوف يتوقفون عن خيالاتهم بشأن تدمير إسرائيل»
هذه بعض الأمثلة على مواقف كثيرة صدرت بشكلٍ رسمي وغير رسمي مؤخراً، والتي يبدو واضحاً فيها أن الحديث السعودي المعلن لا ينسجم مع ما يتحدث حوله المسؤولون في الكيان، ما يدفعنا للسؤال حول حقيقة وجود تقدم في المفاوضات بين الولايات المتحدة والسعودية؟

1141-32

شروط أخرى على طاولة المفاوضات

ما جرى تداوله خلال هذه المفاوضات خلال الأشهر الماضية، حمل في طياته الكثير، وجرى طرح عدد من المسائل، أكدت مصادر متنوعة أنها شروط وضعتها المملكة السعودية لإنجاز اتفاقية التطبيع، فالموقف السعودي المعلن اكتفى بالحديث حول حل القضية الفلسطينية، بينما كانت مطالب الرياض أوسع من ذلك، ويجري الحديث حول مسألتين أساسيتين، الأولى ترتبط برغبة السعودية بالحصول على برنامج نووي متطور يكون توطين تخصيب اليورانيوم شرطاً أساسياً فيه، أي أن تكون الرياض مسيطرة على دورة الوقود النووي الكاملة، ما يمكن المملكة نظرياً من تطوير أسلحة نووية. أما المسألة الثانية تتمحور حول إصرار السعودية على أن تحصل على ضمانات أمريكية أكيدة تضمن بها واشنطن أمن السعودية، ويكون ذلك عبر توقيع اتفاقية دفاع مشترك ملزمة، تمكن الرياض من الوصول إلى أسلحة أمريكية متطورة، وتضمن عدم إعاقة أي صفقات مستقبلية من قبل الكونغرس الأمريكي ما بات يشكّل عامل تهديد بالمعنى الأمني بالنسبة للسعودية، كما تلزم الولايات المتحدة بالتدخل العسكري المباشر في حال تعرض المملكة لأي مواجهة عسكرية في الداخل أو الخارج.

برنامج نووي في السعودية

ربما تكون الأنباء التي جرى تداولها حول ملف البرنامج النووي بالتحديد، هي ما قدّمها البعض بوصفها تقدماً في المفاوضات، إذ نقلت وكالات الأنباء خبراً مفاده، أن نتنياهو وجّه «أعضاء لجنة الطاقة الذرية الإسرائيلية» حتى لا يعارضوا تخصيب اليورانيوم في السعودية، ما اعتبره بعض المحللين دليلاً على «رفع فيتو اسرائيلي» عن امتلاك السعودية برنامجاً نووياً خاصاً، لكن ما يثير الاستغراب فيما سبق هو جملة من المسائل، أولها تجاهل النفي الرسمي الصادر عن مكتب رئيس وزراء دولة الاحتلال حول هذه النقطة، والذي أشار إلى عدم صحة التقرير السابق الذي انتشر من وسائل إعلام صهيونية دون وجود مصدر واضح له. أما المسألة الأخرى هي محاولة إيهام الرأي العام أن موقف الكيان من برنامج نووي سعودي سيكون كافياً لحسم الأمر، متجاهلين أن صاحب الكلمة الحاسمة في هذه القضية ستكون واشنطن، وأن القضية لم تحسم بعد هناك ولا يوجد أي ضمان حتى اللحظة على موافقة أمريكية على طلبٍ كهذا، إذ قدّمت مجموعة من الخبراء والمسؤولين السابقين في الحزبين الجمهوري والديمقراطي رسالة حملت 27 توقيعاً حثّ أصحابها الرئيس بايدن على عدم الموافقة على تطوير السعودية برنامجاً نووياً مستقلاً، ما يبدو بمثابة خطوة تحذيرية يمكن أن تتفاقم بحال طرح الموضوع بشكلٍ جدي ورسمي داخل الولايات المتحدة. والحال يبدو مشابهاً داخل الكيان، إذ حذّرت مجموعة من مراكز الأبحاث الصهيونية الذهاب في هذا المنحى، كونه مدخلاً لإنهاء تفوق «إسرائيل» في المنطقة.

حول الموقف الإيراني

المثير للانتباه أن الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي، وعند سؤاله حول موقفه من التقارب بين السعودية والكيان، قال «لم نسمع شيئاً من هذا القبيل». ورحب رئيسي مجدداً بأهمية التقارب الحاصل بين إيران والسعودية، وأكد أن هذه العلاقة تشهد تطوراً مستمراً، وحول مسألة التطبيع قال الرئيس الإيراني: إن «أي علاقة بين دول في المنطقة والكيان الصهيوني ستكون طعنة في ظهر الشعب الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية» وأضاف إن «بدء علاقة بين النظام الصهيوني وأي دولة في المنطقة، إذا كان هدفه تحقيق الأمن للنظام الصهيوني، فهو حتماً لن يحقق ذلك» وشكك في نجاح الجهود الأمريكية في هذا الخصوص.

خلاصات أولية

تنطلق المملكة السعودية في مواقفها، وبطبيعة الحال، من مصالحها بالدرجة الأولى. ولكن هذه المصلحة بالذات هي ما عبر عنه بن سلمان في قوله للمحطة الأمريكية في اللقاء ذاته أن رغبة السعودية في تحقيق «تقدم حقيقي ونمو كبير، وإنشاء اقتصاد مذهل والاقتراب من نسبة نجاح 100 بالمئة» يعني بالضرورة تحقيق استقرار في المنطقة؛ فإذا كان القول بأن السعودية تتمسك بشكلٍ مبدئي بحل القضية الفلسطينية لا يكفي لتفسير الأمور، فإنّ التمسك بالقضية الفلسطينية من وجهة نظر مصلحة السعودية ومصلحة دول المنطقة، يسمح بحد ذاته باستكمال تفسير المسألة.
الترابط بين حل القضية الفلسطينية ومصالح السعودية ومصالح كل دول المنطقة، بات أمراً واضحاً ومفهوماً للجميع، سواء في ذلك أصحاب المصالح والمناضلون المبدئيون. الجزء الأكبر من حديث بن سلمان مع «فوكس نيوز» كان حول الدور الذي يمكن أن تلعبه السعودية، وآفاق النمو الاقتصادي القادرة على اختراقها، وحمل أيضاً اعترفاً بأن السعودية تأخرت كثيراً بعد أن كانت تملك من الإمكانيات ما يسمح لها بالتحول إلى واحدة من القوى الاقتصادية الأكبر على المستوى العالمي، وأشار أيضاً إلى أن الأبواب الموصدة بوجه المملكة من قبل الغرب قابلها أبواب مفتوحة في الشرق، وأعلن أن السعودية لم تُقبل في مجموعة السبع الكبار، في الوقت الذي لاقت الترحيب ضمن مجموعة بريكس، وأكد في مجمل حديثه على أن بلاده عازمة على أن تبحث عن مصالحها، وعند ذكر العلاقات مع إيران قال: «نحن في نزاع طويل مع إيران منذ سنة 1979، لا نريد أن يستمر ذلك العرف في الشرق الأوسط، إذا كانت هناك فرصة للتخلص من كل هذا والمضي قدما نحو الازدهار والرخاء، سواء من خلال التعاون مع إيران وغيرها من الدول في العالم العربي، فما المانع؟»
في هذا السياق نفسه، يمكن فهم الصخب المثار حول مطالبة السعودية ببرنامج نووي متكامل، ليس بوصفه «بديلاً» عن حل القضية الفلسطينية، بل على العكس تماماً، بوصفه شرطاً إضافياً تضعه السعودية على الطاولة ليس بما يخص القضية الفلسطينية فحسب، بل وفي إطار التفاوض مع الغرب ومع الأمريكان... فما ينبغي فهمه هو أنّ مجرد طرح هذه المسألة على الأمريكان، يعني التلويح المباشر بأن أمام الأمريكان أحد خيارين، إما أن يوافقوا هم على بناء المشروع النووي السعودي، وضمن الشروط التي تطلبها السعودية، أو أنّ السعودية جاهزة لبناء مشروعها النووي بالتعاون مع الصين وروسيا، وهو على الأغلب ما سيجري في نهاية المطاف...

قد لا يقدم ما سبق ضمانات بعدم انزلاق السعودية نحو تطبيع لعلاقاتها مع الكيان، وهذا إن حصل بالشكل الذي يرغب به الكيان وواشنطن من شأنه أن يوجّه ضربة كبيرة لدور السعودية في المنطقة، في الوقت الذي تثبت اللحظة الحالية أن الرياض قادرة بوزنها في المنطقة أن تلعب دوراً محورياً في حل القضية بشكل ناجز، وتكسب بذلك موقعاً متقدماً كذلك الذي تطمح له، الضامن الوحيد بالنسبة للسعودية هو أن تسير مع حركة التاريخ لا عكسها، وأن تدرك أن اللحظة التاريخية تفسح المجال بشكلٍ جديٍ لدور نوعي جديد، ويمكن القول أن تصريحات بن سلمان الأخيرة لا تكشف بشكلٍ نهائي الخطوة النهائية التي يمكن أن تأخذها الرياض، وتبقى الاحتمالات مفتوحة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1141
آخر تعديل على السبت, 21 تشرين1/أكتوير 2023 00:02