«الناجي الأخير» وخيار واشنطن الخاطئ

«الناجي الأخير» وخيار واشنطن الخاطئ

الأحاديث حول الحرب في أوكرانيا وصلت إلى درجات قياسية في شهورها الأولى، ورغم أن وزن الحدث انخفض قليلاً في وسائل الإعلام، إلا أنه لا يبدو كذلك أبداً في مراكز الأبحاث التي تنشغّل حتى اللحظة في تحليل ما يجري والإمكانيات التي قد يتطور الصراع وفقها، كان آخرها ما صدر عن مؤسسة «RAND» الأمريكية، التي ينظر إليها كُثُر بوصفها مؤسسة واسعة التأثير في صنع القرار الأمريكي.

نشرت المؤسسة الأمريكية بحثاً مطولاً مؤلفاً من 32 صفحة تحت عنوان «تجنب حرب طويلة الأمد: السياسة الأمريكية ومسار تطور الصراع الروسي- الأوكراني»، البحث الذي يكثّف عنوانه النتيجة التي خلص إليها، لم يكن وحده ما أشعل هذا النقاش، فالمؤسسة نشرت جملة من المقالات على موقعها الإلكتروني في تواريخ متشابهة، وخرج بعض «باحثيها» للحديث حول الموضوع ذاته في مؤتمرات صحفية، وتصريحات خاصة لوسائل إعلام متنوعة، شكّل دفعة للطرح القديم- الجديد الذي قدّمته المؤسسة.

راند باختصار

تتخذ مؤسسة راند من واشنطن مقراً أساسياً لها، وتعرّف نفسها كمركز أبحاث عالمي، وتقدّم قراءة لمجمل النزاعات والقضايا الدولية الراهنة، تعمل المؤسسة مع 1800 باحث ومتخصص ينتمون إلى 50 جنسية، يتوزعون في مكاتب حول العالم، وتشير الأرقام إلى أن موظفيها يعملون اليوم في أكثر من 25 دولة. وتسعى المؤسسة والمروجون لها لتقديمها كمؤسسة بحثية حيادية، في الوقت الذي تموّل «RAND» رسمياً من قبل البنتاغون والجيش الأمريكي والقوات الجوية ووكالات الأمن القومي وغيرها، ما يجعل المؤسسة تبدو كما لو أنها ناطق رسمي باسم جزء ما من أصحاب القرار في الولايات المتحدة، وتحديداً ضمن المؤسسة العسكرية. وبغض النظر عن القالب الأكاديمي الذي تقدّم الأفكار ضمنه، تقدّم المؤسسة صياغات محددة تعبّر بنظرها عن «مصلحة الولايات المتحدة» والاتجاهات التي ينبغي على الإدارات الأمريكية السير فيها. وهو ما بدأت فيه بحثها المشار إليه أعلاه. والذي أشارت في مقدمته إلى أن منظوره التحليلي يركّز على المصالح الأمريكية، والتي «قد لا تتطابق دائماً مع المصالح الأوكرانية» ورغم أن كُتّاب البحث أقرّوا بتضحيات الأوكرانيين في هذه الحرب، التي وصفوها بأنها عدوان روسي غير مبرر وغير قانوني، إلا أنهم أقرّوا أيضاً بأن «الحكومة الأمريكية ملزمة تجاه مواطنيها بتحديد كيفية تأثير مسارات الحرب المختلفة على المصالح الأمريكية، وكشف خيارات التأثير على مسار الحرب لتعزيز تلك المصالح».

خلاصة ما قدمته RAND

ناقشت المؤسسة مجدداً السيناريوهات المطروحة لتطور الصراع، وفنّدت جملة من الآراء التي جرى تداولها كثيراً منذ بدء المواجهات في أوكرانيا. فأشارت مثلاً بشكلٍ واضح إلى التعويل الغربي على أن الضغط الشديد على روسيا يمكن أن يؤدي إلى تغيرات كبرى في السلطة، وقدّم البحث قراءة مختلفة في هذه المسألة، إذ أشار إلى أن حدوث ذلك لا يعني إطلاقاً توقف الحرب، «فالحرب يمكن أن تستمر حتى بدون بوتين» ومردّ ذلك إلى حجم التضارب في المصالح الأمريكية والروسية، دون الإشارة إلى أن الصراع الحالي لا يمكن النظر إليه بوصفه «صراع مصالح» بقدر ما هو معركة وجود بالنسبة لروسيا كدولة، ولذلك لا يمكن لأية قيادة روسية أن تحظى بدعم شعبي إذا ما فرّطت بوحدة البلاد، وتساهلت مع المخاطر المحدقة فيها.
الجديد الذي قدمته المؤسسة، هو إثبات أن انعكاسات الدخول في حرب طويلة الأمد على واشنطن وإن لم تكن منخرطة بشكل مباشر في هذا الصراع ستكون ذات آثار كارثية عليها. فلخص البحث في نهايته، أن واشنطن والدول الغربية منشغلة في نقاش مستقبل الصراع من باب السيطرة على الأرض، وتسعى لذلك بالبحث عن العتاد العسكري اللازم لتحقيق انتصارات ما في هذا الميدان، وتعتبر المؤسسة أن هذا النقاش يركز على بعد واحد من أبعاد هذه الحرب، فرغم أهمية هذه المسألة بالنسبة لأوكرانيا إلا أنها ليست كذلك بالنسبة لواشنطن، التي وإلى جانب ضرورة تجنبها الدخول في مواجهة مباشرة بين الناتو وروسيا، أو مواجهة نووية مع الأخيرة، يجب عليها أيضاً تجنب أن يتحول هذا الصراع إلى حرب طويلة الأمد. وينبغي الإقرار بأن السيطرة على الأرض ليست الأداة الوحيدة المتاحة في التأثير في مسار الحرب بما يخدم مصالح الولايات المتحدة. ويجري الحديث تحديداً عن ضرورة الدخول في المفاوضات والتمهيد لهذا الاتجاه، عبر توضيح خطط الدعم المستقبلية لأوكرانيا والالتزام الأمريكي بأمنها، لكن ضمان حيادها في الصراع بين الغرب وروسيا، إلى جانب إظهار استعدادها لتخفيف العقوبات عن روسيا.

بيع الأوهام

انشغال الإعلام بالأسلحة الجديدة التي يجري نقلها إلى ساحات القتال في أوكرانيا، يمكن أن يخدع الجمهور العادي من المتابعين، الذين يراقبون التقارير الإخبارية المخصصة لاستعراض القدرات القتالية العالية لهذه الأسلحة، والدبابات الغربية التي يجري تحضيرها للحرب، لكن الخبراء العسكريين يرون بوضوح أن مصير هذه المعدات القتالية محسوم مسبقاً، وقدراتها في قلب نتائج المعركة ستكون ضعيفة جداً، ويبدو هذا واضحاً في كثير من التقارير المنشورة مؤخراً، مثل ذلك المنشور في موقع «بريكينغ ديفينس» والذي اقتبس معدّوه الكثير عن العاملين في مؤسسة راند، وآخرين. فبحسب ما جاء في هذا التقرير: «الشحنات الغربية القادمة من الدبابات الثقيلة والصواريخ بعيدة المدى، وحتى الطائرات المقاتلة قد لا تمكن أوكرانيا من اختراق خطوط التحصينات الروسية الأكثر كثافة» وخصوصاً بعد التحضيرات الروسية على الجبهة. ورغم بعض التصريحات التي تبدي تفاؤلاً أكبر، إلا أن الضخ الذي شكك في إمكانية حسم الصراع يبدو المسيطر في الأوساط المؤثرة، ما يطرح سؤال حقيقياً: إذا كانت كل شحنات الأسلحة هذه غير قادرة على إحراز فرق جدي على أرض المعركة فلماذا يتم إرسالها؟ وخصوصاً أن إدامة اشتباك بهذا الحجم تعني أن القتال الحقيقي يجري في ميادين الاقتصاد والصناعة، التي ينبغي عليها أن تؤمن احتياجات المعركة، لا على مستوى السلاح فحسب، بل على مستوى الطاقة والغذاء، وهو ما تبدو حظوظ الغرب أقل بكثير من حظوظ المعسكر المقابل.

الهيمنة الأمريكية هي الثمن

إلحاق الضرر الأكبر الممكن بروسيا ودول أوروبا الغربية- التي ترى فيها واشنطن منافساً لها- أصبح هاجساً لدى واشنطن، التي وعلى الرغم من المخاطر الكبيرة التي يمكن أن تترتب على هذه اللعبة، إلا أنها لا تزال مغرية بالنسبة لأغلبية صناع القرار هناك. وهو ما بدأنا نسمع بوضوح انتقادات له، مثل تلك التي قدمتها مؤسسة «راند».
أي الدخول في مفاوضات، ونقصد هنا مفاوضات بين روسيا وواشنطن، يعني أن الأخيرة ستكون مضطرة للتنازل عن جزء ما من هيمنتها على العالم، وخصوصاً في أوروبا وشرقها تحديداً. أي خسارة مكاسب مهمة من الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي. تدرك مراكز الأبحاث وموظفوها- الذين عمل عدد كبير منهم عسكريين محترفين ودبلوماسيين، ورجال استخبارات- إلى أن الطريق الذي تمشي فيه واشنطن طريق خطر، فرغم أن الضريبة التي دفعتها حتى اللحظة لا تبدو واضحة للعيان، إلا أن استمرارها في هذا الاتجاه لن يحمل إلا الويلات، وخصوصاً بعد أن تعجز دول أوروبا الغربية عن تحمل فاتورة الصراع الحاصل، وقتها لن تبقى شروط روسيا التي وضعتها قبل الحرب كافية، وستكون الهيمنة اﻷمريكية والناتو هما الخاسر الأكبر في هذه المواجهة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1108
آخر تعديل على الإثنين, 06 شباط/فبراير 2023 10:45