الديون والأدوات الاستعمارية

الديون والأدوات الاستعمارية

لطالما شكّلت الديون عبر التاريخ عبئاً ثقيلاً على كاهل الشعوب والحكومات، وإن كانت هذه الأخيرة قد حاولت مراراً رمي هذا العبء عن كاهلها، فإن عملية الخلاص هذه لم تكن خالية من مخاطر جمّة تعرضت لها الدول الساعية لاستعادة استقلالها، ابتداءً من الضغوط الاقتصادية والأدوات «الناعمة»، ووصولاً إلى التهديد بالتدخلات العسكرية.

سبق للمكسيك أن عاشت هذه التجربة، فبعد أن رفض الرئيس بينيتو خواريز الديون غير الشرعية في عام 1861، حشدت القوى الدائنة الرئيسة للتدخل عسكرياَ في البلاد. وفي كانون الثاني 1862، غزت فرنسا المكسيك ثم دخلها في عام 1864 أمير نمساوي عُرِف بماكسيميليان الأول، إمبراطور المكسيك، واعترف بالديون التي تم رفضها في عام 1861، ووقع على الديون الجديدة التي بلغت قيمتها الإجمالية 560 مليون فرنك، منها 34 فقط وصلت فعلياً إلى المكسيك. وفي عام 1867، سمح أخيراً النصر العسكري للقوات المكسيكية الموالية لبنيتو خواريز بالرفض الفعلي لهذه الديون. أي إن العملية قد استغرقت فعلياً حوالي خمس سنوات كي تنجح المكسيك بالخلاص من عبء الديون.

تجارب من القرن التاسع عشر

في القرن التاسع عشر، لم تكن أمريكا اللاتينية المنطقة الوحيدة ضحية السياسات الجائرة التي قادتها القوى الرأسمالية الأوروبية وبنوكها. إن استحالة سداد البلدان الواقعة على هامش أوروبا للقروض التي تمثِّل عمليات خداع حقيقية سمحت للإمبراطوريات الأوروبية بإخضاعها لهيمنتها. في حالة اليونان– التي كانت قد أخذت قروضاً لتمويل حرب استقلالها ضد الإمبراطورية العثمانية- تذرَّعت المملكة المتحدة، وفرنسا وروسيا بتعليق أداء الدولة المستقلة حديثاً لتضع على عرشها أميراً ألمانياً مهمته الرئيسة هي التعهد بأداء ديون البلاد، ثم، منذ عام 1898، تم إنشاء «لجنة مالية دولية» من قبل القوى الأوروبية الكبرى، من أجل وضع اليونان تحت إشراف مالي كامل لضمان سداد الديون غير الشرعية.
في تلك الفترة، وضعت القوى الأوروبية تلك السلطات المالية الرقابية في بلدان أخرى: حيث تم تأسيس «إدارة الدَّين العام» في الإمبراطورية العثمانية عام 1881 لضمان سداد ديونها المعاد هيكلتها بعد فشلها في الأداء عام 1875. وكان التقصير المصري في الأداء عام 1876 ذريعة لإنشاء «صندوق الدَّين العام». في حين أُنشِئت «لجنة مالية دولية» في تونس في عام 1869 لتسديد الديون المستعصية على السداد المتعاقد عليها قبل سنوات قليلة.

نظرة على القرن العشرين

يرتبط استخدام الدَّين العام كأداة للسيطرة ونقل الثروات بتاريخ التطور الرأسمالي منذ القرن التاسع عشر. بحيث أتاح الدَّين العام أخيراً استعمار الدول التي لم يكن الإشراف المالي فيها كافياً لضمان سداد أموال الدائنين الأوروبيين. هذا ما حدث، على سبيل المثال لتونس لاحقاً في العام 1881، والمغرب في عام 1912 (التي أصبحت في هذه التواريخ مستعمرات فرنسية)، أو لمصر بفعل الغزو الفرنسي- البريطاني عام 1882 (الذي مثَّل بداية السيطرة الاستعمارية البريطانية على البلاد).
إن استخدام الدَّين العام كأداة للسيطرة ونقل للثروات غير مرتبط بصعوبة أداء القروض بالنسبة للمكسيك في عام 1982 مثلاً، ولكنه يرتبط بتاريخ تطور الرأسمالية منذ القرن التاسع عشر.

حماية الدائنين في التاريخ المعاصر

إن المرحلة النيوليبرالية للرأسمالية التي بدأت في السبعينات، والتي تتزامن مع الانتقال من الاستعمار التقديم إلى الاستعمار الجديد (الذي يتميز بالسيطرة غير المباشرة)، تكرِّست هيمنة رأس المال المالي في الاقتصاد العالمي. وقواعد اللعبة الجديدة التي وضعتها الطبقات الحاكمة والمؤسسات المالية الدولية، تقدم تسديد الديون كالتزام لا يمكن أن يكون له أي استثناء فعلياً: فالدائنون هم المحميون، حتى لو كان سلوكهم مفترساً (على سبيل المثال عن طريق إقراض الديكتاتوريات سيِّئة السمعة أو الإقراض بأسعار فائدة ضارة)، وحتى لو أدى السداد إلى أزمات تكون عواقبها كارثية على الشعوب.
لكننا نقف اليوم على أعتاب مرحلة جديدة ينبغي فيها إعادة رسم السياسات بما يسمح للدول الأفقر بإيجاد آليات مناسبة لتسوية ديونها، وحتى إن كان تاريخ القرن الواحد والعشرين لا يزال فقيراً بمثل هذه التجارب، إلا أنه يبدو طريقاً وحيداً متاحاً اليوم لتخفيف آثار الأزمة الاقتصادية المقبلة بالنسبة للأغلبية الساحقة من شعوب العالم.

معلومات إضافية

العدد رقم:
941
آخر تعديل على الإثنين, 25 تشرين2/نوفمبر 2019 13:30