سيول والدبلوماسية الروسية

سيول والدبلوماسية الروسية

روَّجت روسيا ومنذ فترةٍ طويلة لفكرة التكامل الأوراسي، معتبرة أن إنشاء فضاء اقتصادي واحد في أوراسيا هو هدفٌ كفيل بتوحيد جهود كل الدول المتضررة من مرحلة السيادة الأمريكية على العالم. ومع وضع هذا الهدف في عين الاعتبار، أخذت روسيا تتعاون مع غيرها من الدول، سواء من خلال تعزيز العلاقات الثنائية، أو عبر دفع التعاون الكلي من خلال تأسيس الاتحادات والمنتديات كالاتحاد الاقتصادي الأوراسي. بالإضافة إلى الاندفاع نحو المبادرات الصينية الشبيهة، وعلى هذا النحو رحبت موسكو مؤخراً بمبادرة «أوراسيا» لكوريا الجنوبية وسياستها الشمالية الجديدة.

دفعت كوريا الجنوبية خلال القرن الماضي ثمناً باهظاً نتيجة انخراطها في التحالفات مع الولايات المتحدة الأمريكية، وكان لذلك انعكاسات اقتصادية نادراً ما يجري تسليط الضوء عليها في وسائل الإعلام الغربية، التي تميل إلى تصوير كوريا الجنوبية بوصفها واحة للديمقراطية في مقابل جارتها الشمالية التي لا ينفكّ الإعلام يصوّب بكل أسلحته الدعائية ضدها، ومن هذه الانعكاسات الاقتصادية أن كوريا الجنوبية – وكنتيجة لموقعها الجغرافي المحاذي لثلاث دول مناوئة للولايات المتحدة هي كوريا الشمالية والصين وروسيا (الاتحاد السوفييتي سابقاً) – كانت على الدوام مضطرة إلى قصر علاقاتها مع الدول الأخرى من خلال الجو والبحر دون البَرّ، وأجبرتها العلاقات السيّئة مع كوريا الشمالية إلى البحث الدائم عن مخارج للصعوبة التي تتكبدها في عمليات الشحن والنقل الجوي دون جدوى، الأمر الذي لم يكن مفيداً لاقتصاد كوريا الجنوبية، بل يمكن القول إنه لعب دوراً كابحاً لنموها الاقتصادي.

«أوراسيا» غير ممكنة دون بيونغ يانغ

بالرغم من تحسن العلاقات الذي جرى لاحقاً على العلاقات الكورية الجنوبية مع كل من الصين وروسيا، بيد أن علاقات كوريا الجنوبية مع كوريا الشمالية ظلت علاقات إشكالية، وفي السنوات الأخيرة، حدثت انفجارات وتوترات عدّة بين الدولتين، وهو ما ترك أثراً سلبياً على العلاقات الكورية الجنوبية مع روسيا، حيث بدا من المستحيل تنفيذ مشاريع تهدف إلى نقل الغاز الطبيعي من روسيا إلى كوريا الجنوبية فضلاً عن مشاريع أخرى للربط بين الدولتين، مثل مشاريع السكك الحديدية والربط الكهربائي وغيرها. ويميل الموقف الروسي في هذا الإطار للتأكيد على أن هذه المشاريع لا يمكن لها أن تبصر النور، وفي أفضل الحالات لا يمكن لها أن تتطور، إلا من خلال إشراك كوريا الشمالية فيها، ولهذا يكرر المسؤولون الروس عبارة ينبغي أن يمحّص بها المحللون الكوريون الجنوبين طويلاً: «لا يمكن لكوريا الجنوبية أن تحقق رغبتها في تسهيل وصولها إلى أسواق الدول الأوراسية دون تحسين الروابط البرية مع هذه الدول، ولا يمكن تحسين الروابط البرية هذه دون التطبيع الكامل للعلاقات مع كوريا الشمالية أولاً».
ومع ذلك، واصلت جمهورية كوريا الجنوبية طرح مبادراتها فيما يتعلق بالشمال. وفي تشرين الأول/ 2013، اقترحت كوريا الجنوبية مبادرة «أوراسيا»، التي يتمثل أحد أهدافها الرئيسة في تعزيز وتوسيع تعاونها مع الاتحاد الروسي. وقد أثمرت هذه المبادرة ببدء العمل بنظام خال من التأشيرات بين البلدين، وأرسي الأساس للتعاون الاستثماري في المستقبل، وفي النصف الأول من عام 2017، زادت المبادلات التجارية بين روسيا وكوريا الجنوبية بسرعة، وتجاوزت الـ24 مليار دولار في عام 2018.

«السياسة الشمالية الجديدة»

خلال السنة الأولى من رئاسة مون جاي-ان لكوريا الجنوبية، أطلقت سِيِول ما يعرف بـ«السياسة الشمالية الجديدة» (NNP) في عام 2017. والهدف المعلن من هذه العملية، هو دمج جمهورية كوريا الجنوبية، وكوريا الديمقراطية، وروسيا، ودول شرق آسيا في حيزٍ اقتصادي واحد. وتعتزم كوريا الجنوبية– بحسب السياسة الجديدة- التعاون مع جيرانها الشماليين في المجالات الاقتصادية الرئيسة، مثل النقل وتوليد الطاقة والأمن.
لكن السياسة الكورية الجنوبية الجديدة شهدت ما يشبه «العراك» مع روسيا في مسألة تفصيلية: حيث تؤكد موسكو موافقتها على كل ما ورد في هذه السياسة، لكنها عارضت كل التعليقات السياسية الكورية الجنوبية التي لمحت بأن هذه السياسة الجديدة من التعاون موجهّة لاحتواء الصين، وهو ما دفع بالكوريين الجنوبيين إلى تقديم ضمانات بالعمل على جذب الصين إلى سياسات التعاون الجديدة التي أعلنوها، وهو ما أعلنت عنه كوريا الجنوبية في نهاية العام 2017 عندما اتفقت مع روسيا على مشروع «تسعة جسور» في إشارة إلى الروابط التي ستربط الدولتين في مجالات النقل بالسكك الحديدية، ونقل الطاقة، والبنى التحتية للموانئ البحرية، والصيد، وطرق الشحن عبر القطب الشمالي، وبناء السفن، والزراعة، والمجمعات الصناعية، والغاز الطبيعي المسال.

خلاصات من الدبلوماسية الروسية

يشير السلوك الروسي في العلاقات مع كوريا الجنوبية إلى فارقٍ جوهري يفصله عن السلوك الأمريكي في مثل هذه الحالات. حيث إن هذا السلوك يشير إلى أن موسكو لا ترى في نفسها قوة تدفعها الرغبة في بسط النفوذ على آسيا إلى أن تدخل في تحالفات من شأنها أن تقوض جهود الدول الآسيوية الصاعدة، بل، وخلافاً لذلك، تقوم موسكو بدورٍ رائد في رأب الصدع والحد من الخلافات التي أشعلتها الدول الغربية بين الدول الآسيوية عمداً، بهدف تقييد التعاون فيما بينها. بحيث تفضل موسكو المشاريع الإستراتيجية الكبرى التي يحتاج إنجازها إلى عملٍ مضن لتخفيف الصراعات القائمة بين أطرافها، على المشاريع المؤقتة ذات النفع الثنائي المحدود بطبيعته. على هذه الأرضية، تشكل روسيا نموذجاً للعلاقات الدولية الجديدة التي تدفع التعاون بين الدول المتخاصمة إلى الأمام.

معلومات إضافية

العدد رقم:
937
آخر تعديل على الإثنين, 28 تشرين1/أكتوير 2019 14:01