السعودية بين الإنفجار والانعطاف
يزن بوظو يزن بوظو

السعودية بين الإنفجار والانعطاف

تستمر حالة الضغط الجارية على السعودية من مختلف الأطراف بالتصاعد، بينما تعلق هي في الوسط حيث وبسبب تبعيتها للغرب حتى النخاع لم تستطع بعد اتخاذ خطا جدّية نحو تغيير واقعها الدولي، إلا أنّ النوايا في هذا الاتجاه باتت تظهر تدريجياً بفعل الضرورة.

مع ظهور تيار ترامب في واشنطن والبدء باتخاذ إجراءات «الإنكفاء» الأمريكية علناً والتي جاءت نتاجاً لأزمتها الاقتصادية دولياً ومحلياً، تغيّرت طبيعة علاقاتها مع حلفائها التاريخيين نحو إزالة قشع «التحالف» وبروز الوجه الأمريكي على ماهيته بكلّ فجاجة، مصحوباً بشهوة استغلال أكبر بفعل أزمتهم، لتتعرض السعودية إلى سلسلة من الابتزازات والضغوط المباشرة سياسياً واقتصادياً، ولّدت فيها تناقضات أعلى على المستوى الداخلي والخارجي.

الخاشقجي

لعلّ قضية الخاشقجي أوّل ملفٍ يجري ابتزاز السعودية من خلاله ضمن هذا النموذج الجديد في العلاقات الأمريكية- الدولية، ودون الغوص في التفاصيل القديمة حول هذه القضية، ما نريد الإشارة إليه هنا هو عمل الغربيين على إعادة إحياء هذا الملف سياسياً والذي يمسّ بشكل مباشر القيادة السعودية نفسها، كل فترة من الزمن، وتحديداً عند كل لحظة تُعطي السعودية إشارات بأنها تحيد عن تبعيتها المعهودة تلك... ليجري مؤخراً ومع إعلان السعودية عن قبولها مبادرة التهدئة في اليمن التي أطلقها الحوثيون، واستجابة لدعوات إيران بحل القضايا عبر الحوار، بروز ملف الخاشقجي دولياً وإعلامياً من جديد، حيث جرت احتجاجات أمام القنصلية السعودية في باريس، ووضع نصب تذكاري للخاشقجي أمام القنصلية السعودية باسطنبول، وتعلن «المقررة الدولية المعنية بجرائم الإعدام خارج نطاق القضاء» أنييس كالامار، أنه على سعود القحطاني، مستشار ولي العهد السعودي، المثول أمام القضاء في إطار التحقيق بمقتل جمال خاشقجي، بالإضافة إلى إحياء المسألة على صفحات الصحف الأمريكية.

اليمن

جاء التدخل العسكري السعودي المباشر في اليمن في 2015 تلبية لمصلحة الأمريكيين بتوتير الصراع وإذكاء ناره نحو حدوده القصوى، لتتورط ضمن هذا الصراع على كل المستويات، إلا أن تغيّر الظروف منذ 4 سنوات وحتى الآن، وتحديداً مستوى التراجع الأمريكي، قد وضع السعودية بموقعٍ خطيرٍ يهدد نظامها السياسي ومصالحها خارجياً وداخلياً، لتستفيد واشنطن من هذا الأمر عبر رفع مستوى التهديد هذا من اليمن نفسه، لتجري عملية «أرامكو» الشهر الفائت دون عمل الدفاعات الجوّية الأمريكية، مع مساءلات لم تجرِ الإجابة عنها حتى اللحظة حول كيفية تنفيذ الحوثيين «كميليشيا» عن مثل هكذا ضربة؟ ونعيد للأذهان هنا تصريحات ترامب المتفرقة زمنياً حول أن على السعودية «الدفع مقابل الحماية».

حرب الناقلات والتصعيد مع إيران

تدخل في هذا السياق نفسه عملية توتير منطقة الخليج التي أنذرت بإعلان حربٍ على مستوى دولي في المنطقة، بين واشنطن وطهران، وبصرف النظر عن إمكانية نشوب هكذا حرب، إلا أنه لا يمكن لأية دولة تجاهل مثل هكذا تهديدات، ليصل مستوى الضغط على السعودية إلى أعلى مستوى، خاصةً وأنّ هذه الحرب عملياً ستكون على حدودها وأراضيها نيابةً عن الأمريكي البعيد، ومع أزمته المستعصية وما نتج عنها خلال العقد المنصرم على أقل تقدير، تدرك السعودية مسبقاً أنها ستكون الخاسر الأكبر فيها مع واشنطن، ليستفيد الأمريكيون أيضاً من حالة الذعر السعودية لزيادة مستوى الابتزاز والنهب والريع السياسي بالمواقف السعودية إقليمياً ودولياً.

قاب قوسين أو أدنى من: الانفجار أو الانعطاف

ولّدت كل هذه الملفات وغيرها تناقضات هائلة للسعوديين، فعلى الصعيد الدولي لا الغربيون باستطاعتهم «حماية» السعودية أو تأمين مصالحها بعد غرقها في مستنقع الوحل الأمريكي بأزمته وتراجعه، ولا السعودية نفسها بتشابك وترابط مصالحها مع واشنطن إلى تلك الدرجة التي «سلّمت رقبتها لها» قادرة على تحويل ارتباطاتها نحو الشرق دون مجازفات. وعلى الصعيد الإقليمي أيضاً تقع المصالح السعودية في ورطة ضمن صراعها مع إيران، فعلى طول الخط كان وزن السعودية في هذه القضية آتياً من وزن الأمريكي نفسه، ومع تراجع الأخير باتت السعودية وحيدة وهشّة في هذه المواجهة، لكن وعلى أيّة حال فإن الإيرانيين على عكس المصلحة الأمريكية لا يتبعون سياسة نهبٍ وابتزاز، ولا مصلحة لهم بالتوتير، وإنما أولاً بطرد أمريكا من المنطقة، والتعاون على حلّ كل الملفات العالقة بعد ذلك عبر الحوار وتكافؤ المصالح بين الدول، وهو ما صرّحت به مراراً. أما على المستوى الداخلي في السعودية فإن آثار كل هذه القضايا أنتجت بشكل طبيعي حالة انقسام في طاقم الحكم، لم تظهر وضوحاً بعد، بين أولئك الذين يرون مصلحتهم بالانعطاف شرقاً تحت وطأة الواقع العنيد، وأولئك المرتبطين عضوياً بالغرب، ولا يمكن لهم رؤية واقع أنهم منهزمون وخاسرون، فتجري فيما بينهم عدّة أحداث برز منها شيءٌ طفيفٌ بسلسلة الإقالات والاعتقالات التي بدأت ولا تزال مستمرة مع وصول ولي العهد محمد بن سلمان، ولربما يكون لمقتل العميد الفغم علاقة بهذه القضية خلف الرواية الإعلامية. وعلى المستوى الشعبي أيضاً، وبالإضافة إلى النهب التاريخي من قبل القائمين في الحكم جاءت هذه التطورات وخاصة الدخول العسكري في اليمن وزجّه في المواجهة خدمةً لمصالح أولئك، لتزيد من حالة الاحتقان الذي بات معرضاً للانفجار في أيّ لحظة.

وبين كل هذه الظروف الداخلية والإقليمية والدولية للسعودية، بتراكمها، تقترب لحظة تغيير لا مهرب منه، فإما يكون سلبياً عبر انفجار يؤدي إلى اشتداد حالة الانقسام وتصبح السعودية نفسها بؤرة توتر وصراع كآخر مرحلة يستفيد منها الأمريكيون، أو إيجابيّ بتعديل خط التوجه الاقتصادي والسياسي نحو تمتين علاقاته مع إيران وروسيا والصين وقطعٍ مع واشنطن، وإن كان على حساب قطع أجزاءٍ ليست بالقليلة من المصالح السعودية نفسها لصالح استمرار وجودها أولاً.
مؤخراً أعلنت السعودية وقف العلميات العسكرية في اليمن استجابة للمبادرة الحوثية، ودعا ولي العهد السعودي إلى الحوار مع إيران استجابة لطلب الأخيرة أيضاً بحل القضايا سياسياً، الأمر الذي قابله كلٌ من الحوثيين والإيرانيين والروس برحابة صدر، على عكس واشنطن التي تعمل في هذه اللحظات على رفع مستوى الضغط على السعودية لإعاقة أيّة محاولة تقاربٍ من هذا النوع.

معلومات إضافية

العدد رقم:
934
آخر تعديل على الإثنين, 07 تشرين1/أكتوير 2019 14:23