شعوب مشاغبة!
يزن بوظو يزن بوظو

شعوب مشاغبة!

جرت مؤخراً موجةً جديدة من المظاهرات والاحتجاجات في فرنسا، تخللتها «أعمال شغب» مُحرّضة من طرفيّ النزاع، الأول: عبر عفويته. والآخر: مستغلاً هذه العفوية بقلّة تنظيمها، إلّا أن الأمر مُبشر.

منذ أن نجح ماكرون بالانتخابات الرئاسية حاملاً برنامج «الأغنياء» في يده، وما إن لوّح ببدء تطبيق هذا البرنامج، حتى قامت موجة احتجاجات عمّت البلاد، كان متصدرها بشكل أساس عمّال الشركة الوطنية للسكك الحديدية بوجه طروحات خصخصتها التي بدأت تُناقش حينها، وكان ما يميز هذه الموجة حشدها الكبير وتنظيمها من قبل «الاتحاد العام للعمل» بالإضافة إلى التيارات «اليسارية» الفرنسية.
على العكس من الموجة التي بدأت قبل أسبوع بغياب أيةِ جهة رسمية خلفها وبهوامش عفويةٍ أعلى، ليجتهد البعض بتفسيره تراجعاً لدور اليسار وتأثير الاتحاد العام فقط لا أكثر، والبعض اعتبره مقصوداً من هذه الجهات نفسها كرسالة تحذير، إلّا أن الواقع لا هذا ولا ذاك...
نحو بناء حاملٍ حقيقي
مقدمات هذه الاحتجاجات بدأت عملياً منذ تصدر ماكرون للسلطة، لما يحتويه برنامجه من ضرب لحقوق العمال ومصالح سائر الشعب الفرنسي ليتراكم الاحتقان تدريجياً لدى الجميع، وما رفع سعر الوقود وضرائبه إلا ذريعةً لانفجار هذه الاحتجاجات التي تحوي في طياتها تعبيراً عن درجة الاحتقان الحاصل، وبناءً على هذه الذريعة، التي تشمل بتأثيرها كُل الفرنسيين وليس فيها هجومٌ مباشر على قطاع أو شريحة محددة بعينها دون أخرى، لا يستطيع الاتحاد أو أي حزب هناك في الظرف الفرنسي على ضبط وتنظيم احتجاجات جميع الشرائح الشعبية هذه، من هنا نستخلص نتيجتين. الأولى: أن نسبة الاحتقان الشعبي أصبحت أوسع من مجرد عمال فقراء يتظاهرون لحماية قطاع محدد بعينه، والثانية: أنّ هذه التراكمات بدأت تُنتج ضرورة تبحث عن حاملها المُعبر عنها أكان موجوداً أم لم يوجد بعد لتخرج وإن لزم الأمر بطبيعتها العفوية وبمعزلٍ عن وصاية ورعايةٍ رسمية من أية جهة كانت، لذا التفسيران السابقان خاطئان ضمن معادلة «إما و أو» بل هم في آن واحد، والمتوقع نتيجته ضمن هذا الخط بأن تُحدث هذه الضرورة الناشئة تحريضاً على الاتحاد، ولقوى اليسار الحقيقية لاتخاذ دورها الفعلي والجدي في المستقبل.
الابتزاز الأمريكي الأوروبي
تجدر الإشارة هنا إلى بضعة أحداث جرت تخص حكومة ماكرون وتوابعها كانت قد سبقت هذه الموجة من الاحتجاجات، ومنها ما تلاها، فقبل أن يُعلن عن رفع سعر الوقود كان أحد بنوك فرنسا «سوسييتيه جنرال» قد وافق تحت الضغط والابتزاز الأمريكي على دفع غرامة قدرها 1,34 مليار دولار بذريعة «مساعداته لبلدان واقعة تحت العقوبات الأمريكية على إجراء تعاملات مالية» بحسب وكالة العدل الأمريكية والتي جاء على موقعها أن «الغالبية من هذه المعاملات كانت مرتبطة بكوبا»، إلّا أن الإعلان الرسمي عن موافقة البنك على دفع الغرامة ظهر متأخراً وتحديداً بعد رفع سعر الوقود، وكما هو معروف في الأنظمة الرأسمالية والليبرالية، ما يخسره الأغنياء يدفعه الفقراء، وما رفع سعر الوقود إلا واحد من عدة إجراءات تخدم هذه المعادلة.
ليبرالية مفضوحة ومهترئة
أما عمّا جرى في أثناء التظاهرات وما تلاها، يُثبت صحة ما تحدثنا عنه سابقاً حول تراجع دول المركز عالمياً باتجاه ضغط شعوبها، فبعد البدء بتخفيض مستوى المعيشة أولاً، تبدأ آليات ووسائل القمع بالعودة للألاعيب التقليدية المتشابهة بين كُل هذه الأنظمة الليبرالية العفنة كخطوة ثانية على تثبيت هذا الضغط ودفعه أكثر، من هذه الألاعيب نأخذ مثلاً: ذاك «المتظاهر» الفرنسي بين قوسين، يُهدد بالقنابل والمتفجرات، ليستخلص الإعلام الفذ لاحقاً أيضاً بأن هذا «المتظاهر» في الأصل معروف لدى الشرطة، وتمت مقاضاته في السابق لبيعه «مواد ذات تأثير نفساني»؟ شرّ البلية ما يضحك... ثم وبعد موجة التظاهرات بما تخللته من أخبار مضحكة توافق حكومة ماكرون وتوابعها على قانون يهدف «لمحاربة الأخبار المزيفة»؟ تلك التي تنتقد مثل هذه الأنظمة بسلوكياتها ليعطي هذا القانون الحق لهيئة الإشراف الفرنسية في وقف بث أية قناة في أثناء إجراء حملات انتخابية إذا اعتبرت هذه الهيئة أن بث هذه القناة يمكن أن يؤثر على نتائج التصويت، كما يحق لها سحب ترخيص أيّة قناة إذا اعتبرت أنها تهدد المصالح الأساسية للأمة، بما في ذلك نشر «أخبار كاذبة»، وللصدفة قبل بضعة أيام كان قد أجري استطلاع شعبي بحسب «نوفوستي» على حوالي 1500 شخصٍ استخلص هبوطاً بشعبية ماكرون.
تفكك الاتحاد وتوحّد الشعوب
ضمن علاقة التأثير والتأثر والقرب الجغرافي تمتد أية حركة شعبية لتأخذ صدى لها في المناطق المجاورة، كما حصل في بلجيكا التي يُعاني شعبها من ذات الضرر، لتخرج بها أيضاً مظاهرات احتجاجاً على رفع أسعار الوقود وخاصة البنزين منها، إلّا أن هذه الأخيرة مركزها أضعف نسبةً لفرنسا التي تمتلك بجانب ألمانيا التأثير الأعلى شعبياً وسياسياً في المنطقة، ومن الطبيعي أن يتطور الأمر لاحقاً من مجرد علاقة تأثير متبادلة إلى تنظيم مشترك بين شعوب دول، ما سوف يتم تذكره لاحقاً بـ«الاتحاد الأوربي» وليبراليته بسياساتها الجديدة القديمة هذه.
نحن المشاغبون أبداً... لم نبدأ بعد
إن ما سبق كله يسير على خطا النفاذ إلى معادلة الشعوب في وجه الرأسمالية كتناقض أساس يتوضح أكثر يوماً بعد يوم، وتزداد المواجهة به، فقبل سنتين كانت «تعمّ» أوروبا وتطغى عليها «مظاهرات سلمية» و«عفوية غير مُحرضة» على الشاشات ووسائل التواصل تندد بتناقضات ثانوية، ومشاكل وهمية، يتسابق عليها كل من له ومن ليس له عمل في محافل الإعلام والصحافة، ليصدّر حفنة شبّان ذهبوا ضحية التلاعب نحو خوض صراعات وهمية على أنهم جموع غفيرة تُنادي بمشاكل «جذرية»، أما اليوم، ولمّا ابتدأت الجموع قليلاً تقترب من كونها «غفيرة» تحمل بداخلها نضالاً طبقياً وإنسانياً وجذرياً، باتت تُصدّر كأعمال شغب واعتداءات تمسّ «المصالح الأساسية للأمة» و«تنشر أخباراً كاذبة»... إلّا أن هذا الطريق لا زال في أوّله.