الهروب من مجاعة نيويورك.. ما الذي يمكن فعله بمخازن فارغة؟!

الأزمة تختمر، وها هي تتشكل في طوابير تزداد امتداداً وتلوياً.. «جزمات عالية، ملصقٌ أو مكتوب عليها اسم شركة ما، من الواضح أن منتعليها قادمون من مواقع عملهم مباشرة. يتطلب الأمر من عامل البناء التخلي عن الكثير من كبريائه لينضم إلى رتل من أرتال مطبخ الشوربة. لم أشهد مثل هذا المنظر لا مع منكوبي 11/9، ولا في زمن الركود الاقتصادي». هذا ما قاله كارلوس رودريغيز المتحدث باسم «بنك المساعدات الغذائية في نيويورك سيتي»، الذي شهد في السابق أوقاتاً وظروفاً صعبة ولكنها لا تقارن بما وصلت إليه الأوضاع القائمة الآن.

تسونامي الفقر
هنا، في قطاع منعزل، من الشارع رقم 166 في حي مانهاتن، يمكن رؤية الأزمة المالية المحكمة قبضتها على الكوكب شاخصة وقريبة جداً. الفقراء الجدد من العمال، ومزيد من العائلات مع أطفالهم، ينذرون بأنهم سيخرقون آخر شبكات الأمان في نيويورك سيتي.
ليست طوابير الجائعين في هذا الشارع إلا مقدمة للأعظم القادم. في مدينة يزداد فيها الضغط، تسونامي الحاجة والعوز يهدد بإغراق النظام كله. فوفق تقديرات خبراء إطعام الفقراء، المليون ونيف من المحتاجين للمساعدة الغذائية اليوم في نيويورك، سيصبحون مستقبلاً ثلاثة ملايين من الأفواه الجائعة لا خيار آخر لأصحابها.
ثلاثة ملايين! وأين؟ في قلب العاصمة المالية للدولة!!
إذا استحال واقعاً هذا الكابوس الكامن، فسوف تكون ساحته، جزئياً، خلف واجهات المطبخ الجماعي التابع لبنك المساعدات الغذائية، ومخازن أغذية غرب حي هارلم، وأكثر من ألف مخزن مشابه، ومطابخ الشوربة، ومراكز العجزة، ومراكز العناية بذوي الدخل المنخفض، والملاجئ، وغيرها من مشاريع منتشرة في أرجاء البلدات الخمس المحيطة بالمدينة.
عصر كل يوم، النيويوركيون الجائعون في هارلم لا خيار بديل لهم سوى التجمع تحت مظلة خضراء كتب عليها «بدل الطعام»: رجالاً ونساء، شباباً وشيباً. سوداً وبيضاً وهسبان وآسيويين... طيف واسع من العوز.
عصر يوم مضى، في الساعة الثالثة، شاهدتهم يتجمعون تدريجياً. في الساعة الرابعة استطال الطابور حتى بلغ منعطف نهاية الشارع. في الساعة الخامسة كانت جميع مقاعد المطبخ الجماعي ممتلئة، والطابور في الخارج لا يزال طويلاً، و«نموذجياً تماماً، يعبر بدقة عما نراه ونسمع عنه في كل مكان تصله شبكتنا» حسب تعبير رودريغيز.
 
مليونان من الأفواه الجائعة
في عام 2007، وحتى قبل أن تصيبنا الأزمة المالية الحالية، اعتمد مليون وثلاثمائة ألف نيويوركي على مطابخ الشوربة والمساعدات الغذائية. وقد أظهرت إحصائية أجراها بنك المساعدات الغذائية العام الماضي أمراً أكثر ترويعاً: ربع النيويوركيين أكّدوا أنهم لا يملكون أية مدخرات تعينهم إذا فقدوا وظائفهم، وسوف ينضمون مباشرة لأرتال المحتاجين للمساعدات الغذائية! إنه لرقم مقلق في ظل انخفاض معدلات التشغيل والتسريحات التي تزايدت في العام الماضي، خاصة مع الضربة التي أصابت قطاع البناء، الأمر الذي يؤكده «مجلس إحصائيات العمل». ورغم عدم وجود أرقام دقيقة عن الأوضاع الحالية، إلا أن البنك ذاته يشير إلى ارتفاع عدد المحتاجين للمساعدة بنسبة الضعف منذ إجراء تلك الإحصائية، وأكثر من الضعف لدى بعض وكالات توزيع الأغذية والمطابخ الجماعية.
يتابع رودريغيز قائلاً: «هذا يعني، بطريقة أو بأخرى، احتمال وجود مليوني محتاج لخدماتنا، ونحن بالكاد نتمكن من توفير الغذاء للعدد الموجود من الناس حالياً. ماذا نفعل إذا لم يتمكن هؤلاء المليونان من الناس الفاقدين للمدخرات وللبدائل من الاعتماد على أنفسهم يوماً؟ بدء تنفيذ خطة طوارئ غذائية؟ يا لهامن ورطة كبيرة».
يرسم رودريغيز الخطوط العريضة للسيناريو الكابوسي بلهجة ملحوظة الهدوء والرزانة إلى حد ما، ربما، لأن الخوف يحتل اليوم مساحة قليلة في العالم المسعور لنائب رئيس وكالة العلاقات وإدارة البرامج في بنك المساعدات الغذائية.
في يوم زيارتي، لم يكن في مطبخ هارلم الجماعي عدد كافٍ من المتطوعين للعمل. فأخذت استراحة في منتصف المقابلة لأساعد في تحميل صناديق الغذاء المتراصة (صناديق تفاح وبهارات وخضار وخبز وخضراوات معلبة ومحارم وأكياس بصل) على العربات التي تذهب للتفريغ وتعود ثانية بسرعة. كان من الضروري إخلاء المساحة لملئها بالطاولات والكراسي التي سيجلس عليها الناس المنتظرين خارجاً، الذين يطالبون بل يتوسلون أن يبدأ المطبخ بتوزيع وجبة الغداء.
تأتي مؤونة المطابخ عادة من مستودعات ضخمة ومخازن خاصة بحفظ الأغذية. في عام 1997، أوردت صحيفة نيويورك تايمز تقريراً مثيراً للأعصاب عن زيادة معدلات الجوع التي رفعت كميات الأغذية الصادرة من المستودعات من 2.5 مليون باوند شهرياً في بداية العام إلى أربعة ملايين باوند في نهايته. أما اليوم، فهذا الرقم العالي صار يعد تافهاً. إذ يقول براد سوبيل، مدير مستودع الأغذية: «خلال الشهر الماضي وحده صدرنا 7.2 مليون باوند».
زرت مرة مخزن برونكس، مثلما زارته 576 ألف بيضة أفرغت في مستودع كبير مبرّد. لم يبق منها خلال أسبوعين سوى الذكرى.. والكلام لسوبيل: كلها تم توزيعها على المطابخ الجماعية وبرامج المساعدات الغذائية التي تحتاجها في أزمنة الفاقة. وحدهما الحاجة والعوز لا ينتهيان أبداً، أمن المعقول أن تعود الوجبة من يدٍ قبضت عليها؟.
المستودعات ممتلئة بأنواع مختلفة من الأغذية وبكميات ضخمة جداً. بعضها تبرعات من الشركات الغذائية، وبعضها مقدّم من أموال الحكومة الفيدرالية عبر «برنامج طوارئ المساعدات الغذائية»، وبعضها يشتريه المستودع بسعر الجملة.
يضيف سوبيل: «التبرعات في ازدياد»، وهو ما تعكسه أيضاً تصريحات مسؤولي بنوك المساعدات الغذائية عبر الولايات المتحدة التي شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في التبرعات أثناء تدهور الاقتصاد. ولكن العوز أيضاً في ارتفاع، وقد بلغ نقطة حرجة.
أما بول، وهو المراقب في المستودع، فيقول مستعيداً ذكريات الطفولة مع عائلته التي مرت بها أيام الحاجة الصعبة للغذاء: «أحب عملي هنا، إنه مجزٍ، فنحن نعمل في مهنة إطعام الجائعين، نوفر سريان الدفء في بطون كثير من العائلات. في هذه الأوضاع الاقتصادية الصعبة، عدد متزايد من الناس يفقدون أعمالهم ووظائفهم، وعدد متزايد منهم يكافح بمشقة ليبقى».
 
جائعون من ذوي الياقات البيضاء
حتى بعض أولئك الذين ما زالوا محتفظين بأعمالهم يعانون من مشكلة تأمين طعامهم، والدليل على ذلك يظهر واضحاً في هارلم، حيث بدأ قدوم العمال ذوي الياقات البيضاء بثيابهم الأنيقة للانضمام إلى عمال البناء، كوجوه جديدة في طوابير مطابخ الشوربة.
بعضهم يحتاج للغذاء أثناء بحثه عن عمل، فالباحثون عن العمل صباحاً ليسوا ظاهرة نادرة هذه الأيام. تيلور، أحد مدراء المطبخ الجماعي يتذكر: «قرع بابنا ذات صباح، رجل يرتدي بذلة وقميصاً مرتبين وياقة أنيقة، طالباً وجبة طعام. أخبرته أننا نقدم الطعام في الساعة الرابعة بعد الظهر، فقال لي إنه آتٍ إلى هذه المدينة حديثاً من كاليفورنيا، وإنه مشرد يسكن في ملجأ حالياً، ويحاول أن يجد عملاً». وأردف: «أود أن أعود في الساعة الرابعة، ولكنني لا أعرف أين سأكون، أتمنى أن أكون قد وجدت عملاً حتى ذلك الوقت. أيمكنك أن تعطيني أي شيء للأكل؟ أي شيء؟». فأعددنا له سندويشة على الماشي!!
وحسب قول تيلور: «يزداد كثيراً عدد الأطفال والمسنين في طوابير المطبخ الجماعي، وقليل من المتأنقين يأتون في وقت واحد عادة مرتدين بذلات عملهم. يوماً بعد يوم، تصبح ملابسهم أكثر انسجاماً مع ملابس المشردين المصطفين في الطوابير، الحاملين ثقل العالم كله على أكتافهم».
في ذلك المساء لم أشاهد أحداً من أولئك المتأنقين في الطابور. ولكنني شاهدت رجالاً ينتعلون جزمات عملهم، وشباباً في سن المراهقة. وخلف منصات الطعام الزجاجية في غرف الإطعام الدافئة، تسعة متطوعين شباب، معظمهم من النساء، بقبعات وقفازات يقدمون اللحم والبطاطا المسلوقة والكرنب المطبوخ، مع تفاحة، وقطعة خبز، وكأس عصير أرجواني اللون.
المشهد نفسه يتكرر من يوم الاثنين وحتى الجمعة، مع وجبة فطور صباحي الثلاثاء والخميس.. هذا المساء كان الحشد يأكل بنهم وعن سابق إصرار وتصميم ولهدف!. وبانتهاء الدفعة الأولى من الأكل تقدمت الدفعة الثانية من الجائعين المنتظرين، بينما المتطوعون يملؤون الطبق تلو الطبق بجد. لم يقصّروا في هذا المساء، ولكن ألن يقصروا إذا ما اشتدت الأزمة الاقتصادية أكثر؟.
 
ما الذي يمكننا فعله؟
طابور المطبخ الجماعي ليس الوحيد في هذا الشارع من حي هارلم. فطيلة أربعة أيام من الأسبوع، يمتد رتل طويل في الاتجاه المعاكس أمام مركز توزيع للأغذية المتنوعة، من اللحوم المعلبة وحتى حليب الأطفال، لسكان نيويورك الحائزين على كوبونات إعانات مالية (غذائية حصراً). يحق لفرد واحد من أفراد العائلة فقط، في يوم واحد من الشهر، التزود بالمؤونة المخصصة لعائلته، بعد إثبات إقامته في نيويورك وإبراز كوبونات الإعانة. وحسب قول تايلور «يرتاد هذا المركز ما بين مائة ومائة وخمسين عائلة يومياً، يشفطون كل ما فيه، مع العلم أن الإعانة الغذائية التي تحصل عليها العائلة لا تكفيها حتى الأسبوع الثاني من الشهر».
كما يلحظ كارلوس رودريغيز: «حتى قبل الأزمة الاقتصادية الحالية ارتفعت المعونات الغذائية بنسبة 24%، وفق إحصائية بنك المساعدات الغذائية، بينما معدلات التبرعات بدأت بالانخفاض، قياساً بازدياد الحاجة على الأقل. فما بالك بعد آثار الأزمة الاقتصادية المتزامنة مع مشاكل عولمة سوق الأغذية، وآثار التغيرات المناخية. كلاهما يشكلان موجات من آسيا إلى حي هارلم. فبعد موجة الجفاف التي أصابت بعض مناطق في العالم ارتفع سعر الرز ارتفاعاً مذهلاً خلال الصيف الماضي، فعجزنا عن تأمين الرز وبعض أنواع الحبوب».
في الوقت نفسه، تعاني المصانع الغذائية من أزمة خانقة. فهي التي كان فائض إنتاجها يُعتبر أحد مصادر بنك المساعدات الغذائية، أما في هذه الأيام فلم تعد تنتج سوى ما تستطيع بيعه. وبما أننا في سوق معولم، تلجأ بعض المصانع المقتدرة إلى بيع فائض إنتاجها في السوق العالمية. مما يعني واقعياً انخفاض التبرعات المقدمة لبنك المساعدات الغذائية.
ورغم حقيقة أن بنوك المساعدات الغذائية في كل الولايات الأمريكية قد سجلت ارتفاعاً (مؤقتاً أو طويل الأمد لا أحد يعلم) في التبرعات ساعد بنك نيويورك على الصمود في وجه الضغط الهائل عليه، لكن إذا ما استمرت المؤسسات المتبرعة بالرضوخ لضغط الكساد الاقتصادي المتزايد، والمؤسسات الخيرية في تخفيض منحها، طالما أن البيزنس يقلص تبرعاته، فإن تسونامي المجاعة الذي يخيف رودريغيز قادم باتجاه نيويورك على الأغلب.
إنه الزمن الصعب. حتى الآن يستطيع بنك المساعدات الغذائية في نيويورك، شبكة الأمان الأخيرة، تأمين قوت المحتاجين، حائلاً بينهم وبين المجاعة المطلقة. ولكن إذا استمر تمدد الطوابير، وتجاوز عدد المحتاجين سقف المليونين، فلسوف تقع الكارثة..
وما الذي يمكننا فعله بمخازن فارغة؟

معلومات إضافية

العدد رقم:
405