إبراهيم البدراوي إبراهيم البدراوي

اللاهثون وراء السراب...

الجهد الأكبر هذه الأيام الذي تبذله السلطة وأبواقها موجه إلى بث الأوهام حول الزيارات المتبادلة بين مبارك  وأوباما خلال هذا الشهر والشهر المقبل.

ففي حين شدد المتحدث باسم رئيس الجمهورية على أهمية زيارة مبارك واصفا إياها بأنها «تستمد أهميتها من العلاقات الاستراتيجية بين البلدين...»، ثم مسترسلاً في الحديث عن الأهمية التي يحتلها موضوع «السلام» في الزيارة، فإن مدير مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية  يزيد الأمر وضوحاً حين يقرر «سرعان ما تثبت الأيام الحاجة الماسة للبلد الآخر باعتباره شريكاً لا يمكن الاستغناء عنه»، وأن مصر «تمثل شريكاً استراتيجياً مهماً للولايات المتحدة في سعيها  من أجل سلام الشرق الأوسط وجهود الاستقرار الأشمل في المنطقة». بل ويصور أن أي تناقضات بين مصر وأمريكا هى مجرد هواجس، ويؤكد على الأهمية الكونية للأخيرة، وكذا الأهمية المتزايدة للعلاقة خاصة بالنسبة لمصر وتقدمها الاقتصادي والاجتماعي.
وإذ يدرك هذا الاستراتيجي العبقري حجم الكارثة المحدقة بالولايات المتحدة، فإنه يمهد لما يسميه «التغيير الجوهري من المعونة إلى الاستثمار»، ويشير إلى تصاعد الاستثمارات الأمريكية  التي وصلت نسبتها إلى 48% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية والعربية عام 2007. أي أنه يلمح ويمهد لالغاء المعونة الأمريكية «الملعونة».
وكالعادة يؤكد على «وجود مرحلة جديدة من العلاقات المصرية الأمريكية» ويعزو ذلك إلى «التغيرات الموجودة في توجهات إدارة الرئيس باراك أوباما إزاء مصر ومنطقة الشرق الأوسط وحتى العالم كله». ويستطرد «أخيراً فإن كلاً من واشنطن والقاهرة تحتاجان إلى إعطاء العلاقة بينهما الشرعية التي تستحقها لأنها رغم الاختلاف حققت لكليهما في النهاية من المصالح والفوائد ما لم تحققه لهما علاقات خارجية كثيرة».
هكذا ببساطة، ورغم كل ما ارتكبته وترتكبه الولايات المتحدة من جرائم في منطقتنا وفي العالم كله، تضخ الآلة الإعلامية للسلطة أكثر مما يحلم به أوباما الذي لم يستطع أن يصمد لأسبوع واحد في التمسك بقراره الخاص بالتعذيب.
حينما يتم الكلام عن السلام والاستقرار، نتساءل أين الاستقرار والسلام الذي تحقق بعد الصلح المشين بين أكبر دولة عربية وبين الكيان الصهيوني، في ظل هذه «العلاقات الإستراتيجية»، وماذا عن احتلال العراق وأفغانستان، والعدوان اليومي على الشعب الفلسطيني، وعدوان تموز على لبنان، ثم العدوان الوحشي على غزة؟ لقد تحولت المنطقة لتكون بؤرة التوتر والصراع الرئيسي في العالم بعد تمكين السادات للأمريكيين من تحقيق حلمهم في الوجود والهيمنة على أغلب بلدان المنطقة وهو ما عمقه مبارك. وهل يمكن وجود علاقة استراتيجية  بين التابع والمتبوع؟ أم أن التابع يكون بالضرورة (بحكم عدم التكافؤ) مجرد جزء من استراتيجية المتبوع؟
والأكثر غرابة، الحديث عن التقدم الاقتصادي والاجتماعي الذي حققته هذه العلاقة (الكريهة)، التي جلبت إغراق مصر في الديون، ووصول التفاوت الطبقي إلى مستويات غير مسبوقة، وإفقار الغالبية الساحقة من الشعب المصري والبطالة الهائلة والفساد، وتدمير الأصول الانتاجية، وعودة رأس المال الامبريالي والصهيوني، بعد أن أقصيناه، للهيمنة من جديد، مع تهميش دور مصر الإقليمي والدولي، وتهديد أمنها القومي، والاختراقات الهائلة عبر التمويل الصهيو– امبريالي للعملاء... الخ.
وحينما يتم الحديث عن المعونة، وأوهام الاستثمارات الخارجية، فإنهم ينسون أن «معونة العار هذه» كانت فادحة الثمن بما يفوق الخيال. لقد كانت ثمناً بخساً لأول إرساء واقعي لشرعية وجود العدو الصهيوني من ناحية، والارتداد عن الخط الوطني والقومي والتنمية المستقلة من ناحية أخرى. إن ما سلب منا مقابل هذه المعونة لا يمكن مطلقاً تقييمه بالمال، حتى بمال الدنيا كله.
لكن الأنكى هو الحديث عن الاستثمارات الخارجية التي جاءت بالخراب لمصر، والتي لم توجه إلى بناء أصول انتاجية (ولن تفعل) بل دمرت ما لدينا  بدءاً من الاقتصاد حتى المنظومة القيمية. كما أن الاستثمارات الأمريكية التي وصلت إلى ثلاثة مليارات و743 مليون دولار في عام 2007 حسبما ذكر، كانت في جانب كبير منها موجهة إلى البورصة لاقتناص الأرباح في لحظة، والهروب في اللحظة التالية. كما أن الظروف الآن في ظل الأزمة العالمية (الأمريكية بالأساس) قد تغيرت، فالاستثمارات بالطبع تتراجع عالمياً بدرجات مخيفة.
لكن بيت القصيد في ذلك كله يتمثل فيما يعتبرونه «أهمية كونية» أطلقها ذاك الاستراتيجي المهم على الولايات المتحدة، رغم أن هذه الأهمية تتآكل منذ سنوات، ويتصاعد تآكلها الآن بوتيرة متسارعة. ومع ذلك فانهم يتشبثون بأمنياتهم باستمرار سيدهم الأمريكي على عرشه المتداعي.
إنهم لا يعرفون الخجل. وكعادتهم دائماً مع أي من سادتهم الجدد في البيت الأبيض يقدمون فروض الولاء بمذلة. وفجأة يروجون أن «أوباما الطيب» جاء ليصلح ما أفسده «بوش الشرير»، رغم أنهم طبلوا وزمروا ورقصوا لـ«بوش» حينما قام بغزو العراق، وطبلوا وزمروا ورقصوا حينما اعتدى العدو الصهيوني (بدعم معلن من بوش) على لبنان صيف 2006، واتهموا حزب الله وقائده بأنهم مغامرون. وطبلوا وزمروا ورقصوا عند العدوان على غزه مؤخراً (بدعم معلن من بوش). غير أن المقاومة في الميادين الثلاثة خذلتهم وانتصرت، وذهب بوش، وبدأ الطبل والزمر والرقص لـ«أوباما». وسيستمر ذلك حتى رحيله، أو إلى أن نواريهم التراب وقد يكون هو الأقرب.
إن الشعب المصري قد تعلم الكثير بتجربته الذاتية، ولا يمكن أن تخدعه هذه الأضاليل التي يبثها اللاهثون وراء السراب.

معلومات إضافية

العدد رقم:
405